العدد 3766 - الجمعة 28 ديسمبر 2012م الموافق 14 صفر 1434هـ

صحوة الضمير

محمد عباس علي comments [at] alwasatnews.com

عضو سابق في مجلس بلدي المحرق

في قصة من روائع الأدب العالمي للكاتب والفيلسوف الروسي ليو تولستوي (1828 – 1910) تحمل عنوان «ان الله (سبحانه وتعالى) يرى الحقيقة، ولكنه يمهل» God Sees the Truth, but Waits، وملخصها أنه في سجن سيبيريا، سجن تاجر شاب عمره 26 عاماً، اسمه ديميترى أسكنوف، بسبب اتهامه بقتل تاجر وسرقة أمواله. وبسبب سجاياه الرفيعة اكتسب اسكنوف تقدير واحترام كل من عرفه من مسجونين وسجانين، حيث عاش حياة القديسين.

وفي أحد الأيام جلب إلى السجن مجموعة من المحكومين الجدد، وكان من بينهم شخص يدعى مكار، وعرفه المسجونون بأنه شخص شرير قاسي القلب، لا يتورع عن عمل أي شيء في سبيل تحقيق مآربه. وبعد أشهر عرف اسكنوف من أحاديث مكار بأنه هو من سرق وقتل التاجر الذي اتهم هو بقتله، ولكنه أسلم أمره إلى الله سبحانه وتعالى، وكتم ذلك في نفسه رغم تجدد حزنه.

وفي أحد الأيام رأى اسكنوف مكار وهو يقوم بعمل نفق للهروب من السجن، ولكنه لم يبلغ عنه. وبعد فترة اكتشف هذا النفق، وأخذوا يستجوبون المسجونين عمّن حفره، وقد أحجم الجميع عن الاعتراف خوفاً من بطش مكار بهم. وعليه فقد لجأ مأمور السجن لاسكنوف لعلمه بأنه لا يكذب، ولكن كانت إجابته: لم يشأ الله أن أخبركم بذلك! وإثر ما فعله اسكنوف من معروف لم يستطع مكار تلك الليلة الخلود إلى النوم، فذهب له، وانهار أمامه، واعترف له بجريمة قتل التاجر وإخفاء أداة الجريمة في متاعه، هذه الجريمة التي بسببها سجن اسكنوف طيلة هذه الأعوام الطويلة، التي حوّلت حياته الهانئة إلى جحيم، حيث أبعد عن زوجته وأطفاله، كما ذاق فيها أصناف العذاب. وأجهش الرجلان في بكاء هستيري، وطلب مكار الصفح والغفران من اسكنوف، وأخبره بأنه سوف يذهب لمأمور السجن ليعترف له بجريمته حتى يخلوا سبيله، ولكن اسكنوف أخبره بأنه سامحه، وحاول ثنيه دون أن يفلح، واعترف مكار بجريمته التي قام بها قبل 26 عاماً، ولكن عندما أتى الأمر للإفراج عن اسكنوف، وجدوه ميتاً!

يبدع الأدباء والفنانون بشكل عام في طرح القضايا الانسانية الكبيرة ذات المضامين العالية في أعمالهم الفنية. وفي القصة أعلاه نجد التناقض الصارخ بين البشر من قوى خيرة تسعى لزرع الخير والمحبة، وعلى النقيض منها أخرى شريرة تهلك الحرث والنسل، في سبيل تحقيق أطماعها الذاتية.

والقصة تثير عدة أسئلة للتفكير: هل يمكن أن تحدث مثل هذه القصة في الواقع؟ وهل جريمة السرقة والقتل التي قام بها مكار توقف أثرها على بضعة أشخاص، كالشخص المقتول والآخر المتهم؟ وهل يمكن أن تضلل العدالة، بحيث يحكم على أبرياء بجرائم لم يقوموا بها؟ وما هي الآثار المختلفة، من نفسية واجتماعية فضلا عن الجسدية، التي قد يعيشها من ظلم، ولم يجد من ينصفه؟ وما الذي دفع مكار وهو الشخص الشرير، فجأة للاعتراف بجريمته التي اقترفها قبل 26 عاماً، رغم مسامحة اسكنوف له، وعلمه بما سيكلفه هذا الاعتراف؟ وهل هناك دروس أخلاقية يمكن أن تستقى من هذه القصة؟ والسؤال الأهم في اعتقادي: هب أن المجرم قد أفلت من العقاب، بسبب عدم اكتشاف جريمته، فهل يمكن إخفاء ما يقترف من جرائم عن الباري عز وجل؟ سوف أجمل ما أعتقد من إجابة على تلك الأسئلة، فالواقع قد يكون أغرب من الخيال. وهذه القصة بمضامينها العميقة التي سبر فيها المؤلف أغوار النفس الإنسانية بشتى تناقضاتها، هي انعكاس واقعي لما قد يحدث في الواقع اليومي الذي يعيشه البشر في مختلف أصقاع المعمورة. فهناك بشر من ضعاف النفوس همهم إشباع بطونهم، بغض النظر عن السبل، إذا كانت مشروعة أو أخلاقية أم لا، فهم على استعداد لأن يتجاوزوا كل الخطوط الحمر ويقترفوا كل المحرمات، في سبيل تحقيق ما تصبو له أنفسهم.

فمن الأمور التي يتفق عليها الفلاسفة، أن الإنسان جبل بفطرته على حب الخير والتعايش مع الآخرين وفق نظم ونواميس، ومقته للغش والزيف والخداع!

وجاءت الشرائع السماوية لتهذب النفس البشرية، وتنظم حياة البشر، في جميع مناحيها وشئونها، حتى في أدق تفاصيلها.

ويخطئ من يعتقد بأن الضرر الذي قد يحدث لفرد في المجتمع تقف تداعياته عند هذا الفرد بعينه، بل تتسع الدائرة فتصيب آخرين. وما حدث في بلدي الجريح من تنكيل بجميع صنوفه بفئة كبيرة من المجتمع، وتجاوز لجميع الخطوط الحمر، هو هدم حقيقي لنسيج المجتمع مع سبق الإصرار والترصد، قام به من وشى وفصل، وأشاع الفتن، وسرق وخوّن، ومن وقف سداً في وجه من طالب بحقوقه التي كفلتها جميع الشرائع السماوية والوضعية، عالمية ومحلية! كذلك من فرح لإسقاط الجنسية ومازال يطبل ويزيف الحقائق، مطبقاً مقولة: «اضرب واهرب».

ان هذه الجرائم لا نستطيع أن نقول انها لم تكن موجودة قبل الحراك الشعبي في فبراير/ شباط 2011، بل كانت موجودة وإن بوتيرة أخف، ولكن الذي حدث بفعل النفوس المريضة هو العمل على الوتر الطائفي وتخوين طائفة وتخويف أخرى بشتى وسائل الإعلام، حتى تأثر البعض بها، واستحضر البعض الآخر مفاهيم الغاب والجاهلية الأولى، ونسجوا قصصاً وحاولوا تثبيت مفاهيم، غير موجودة في الواقع، وعملوا على الفتنه التي وصفها رب العزة والجلال بأنها أشد من القتل، وهم بلاشك سيحملون أوزارهم، وأوزار من ضللوا وظلموا.

كما في قصة تولستوي، هناك الكثير من الأبرياء في بلدي الصغير ممن وقع عليهم الحيف والظلم، ونالوا الأمرين ولايزالون يتعرضون لشتى أصناف التنكيل، الذي لاتزال آثاره باقية وشاهدة على هذا السلوك العدائي الممنهج سواء ضد أفراد أو جماعات، ومنهم من هم مغيبون خلف القضبان، والكثير منهم قد لا يجدون من ينصفهم من البشر، وقد أذن لهم الباري برفع ظلامتهم في قوله تعالى: «‏لا يُحِبُّ اللهُ الجهْرَ بالسُّوءِ من القوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وكان اللهُ سميعًا عليمًا» (النساء: 148)، وفي الحديث: «إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله».

إن سبب اعتراف مكار في القصة بجرمه، هو لحظة تجلٍّ ويقظة للضمير، حيث أفاق من سباته ورفعت عنه الغشاوة، بأن هناك بشرا قادرين على مقابلة الإساءة بالمعروف، وهذا ليس بسبب أنهم ضعفاء، بل لأن الفطرة البشرية الخيرة التي يحملونها بين جوانحهم قد طغت على الجوانب الشريرة، وذلك لإيمانهم ولعلمهم اليقين، بأن هذه الدنيا زائلة مهما طال عمر الفرد، وإنما يبقى عمل الخير.

فطوبى لمن تدارك أمره وصحا ضميره، وأسرع إلى تصحيح خطئه واعتذر ممن ظلم، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر، ففي ذلك رضا لله سبحانه وراحة للنفس، والعاقل من أيقن بأن الدنيا عمل دون حساب، والآخرة التي لا ريب فيها، حساب دون عمل، فهل من متعظ؟

إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"

العدد 3766 - الجمعة 28 ديسمبر 2012م الموافق 14 صفر 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 2:49 م

      نعم حدث هذا في الواقع و لكن...

      أعرف إسكنوفاً مظلوماً خدم و زارة الصحة كإداري حوالي 40 عاماً بتفاني و إخلاص حتى تاريخ إتهامه، و لكن الوزارة كافأته بالسجن نظير هذا الإخلاص بسبب خطأ (مكارٍ) محبٍ للدنيا والمنصب، لذا آثر الصمت و هو يرى مظلوماً يقبع في السجن و هو في هذا العمر. و خرج إسكنوف من السجن بعد قضاء المدة ظلماً، و خسر كل شيء، و بقى مكار في منصبه إلى اليوم دون أن يوخزه و يعذبه ضميره كمكار سجن سيبيريا

    • زائر 3 | 6:06 ص

      أين هو الضمير؟

      إن القصص التي مرت على الانسان كثيرة و لكن قل من يتعظ منها. مقال جميل و بارك الله فيكم

    • زائر 2 | 5:19 ص

      اللي شبع بطنه من أكل الحرام ضميره ميت

      مافي فايده فيه لا دين يردع و لا وزاع وو لا أخلاق لأن الضمير ميت

    • زائر 1 | 1:05 ص

      الصحوة تأتي لمن عنده ضمير حي

      ان الان الطبيعي يمكن ان يصحى ضميره ، لبعض ما عاناه هذا الشعب، ولكن المرضى وهم كثر انهزام هذه المأسي. فهل هؤلاء من جنس البشر؟ شكوا علي المقال الرائع

اقرأ ايضاً