قدم عالم الاقتصاد الايطالي باريتو Pareto في مطلع القرن العشرين نظرية أطلق عليها نظرية 20-80 وخلاصتها أن 20 في المئة من الإنتاج يقوم به 80 في المئة من الموظفين، مقابل أن 80 في المئة من الإنتاج يقوم به 20 في المئة من الموظفين. وبذلك لو تم الاستغناء عن عدد من فريق الـ 80 في المئة من الموظفين فلن يؤثر ذلك في الإنتاج بخلاف لو تم الاستغناء عن أي عدد من فريق 20 في المئة من الموظفين، فإن ذلك سيترك أثراً في الإنتاج ويؤدي لتدهوره. وأوضح صاحب النظرية أن مهمة القائد الناجح هو السعي لإعطاء مسئوليات أكبر لفريق 20 في المئة من الموظفين، وفي الوقت نفسه السعي لزيادة أو تحسين أداء الـ 80 في المئة بقدر الإمكان.

إن العمل العربي المشترك للأسف يعتمد نظرية عكسية تقوم على الإطاحة بالـ 20 في المئة الذين ينتجون 80 في المئة من الإنجازات وزيادة عدد الـ 80 في المئة الذين يقدمون القليل. ومرجع ذلك هو ما أطلق عليه نظرية أهل الثقة وأهل الخبرة، حيث يعتمد العمل العربي المشترك على نوعين من أهل الثقة. أولهما الموثوق به بالنسبة لرئيس العمل أو الأمين العام للمنظمة أو الرئيس أو المدير التنفيذي وفقاً للتسميات في كل منظمة عربية، وثانيها الموثوق به من الدول الأعضاء. وفي كلتا الحالتين فإن الموثوق به في معظم الحالات لا يتمتع بالخبرات الضرورية للقيام بالمهام التي تُسند إليه، في حين أهل الخبرة يتوارى دورهم وربما يتم الاستغناء عنهم لسبب أو لآخر.

وتجربتي من واقع الاحتكاك بالعمل العربي المشترك عندما عملت مندوباً دائماً لمصر في جامعة الدول العربية، ومن واقع متابعته بعد ذلك عن بعد، تظهر أن أمين عام جامعة الدول العربية الأسبق عصمت عبدالمجيد، كان يعتمد نظرية أهل الثقة وأهل الخبرة ولكن من منظور 20-80، أي 20 في المئة من أهل الثقة المقربين جداً من طبيعة عمله والذين يفهمون شخصيته وكان في مقدمة هؤلاء السفير الممتاز رحمه الله أحمد عادل مدير مكتبه، في حين أنه اعتمد بدرجة كبيرة على شخصيات جمعت العنصرين، أي أهل الثقة وأهل الخبرة، وكان في مقدمة هؤلاء المستشار طلعات حامد المستشار الإعلامي له.

وعندما ترك عصمت عبدالمجيد وجاء بعده عمرو موسى كان منطقياً تغيير المقربين من الأول، فتقاعد السفير أحمد عادل في حين أن المستشار طلعت حامد باعتباره جمع الثقة والكفاءة أسندت له مهام أخرى تميَّز وتفوَّق فيها. وبعد إنشاء البرلمان العربي بعد قمة تونس 2004 أصبح طلعت حامد أميناً عاماً مساعداً للبرلمان العربي بصفته خبيراً وذا كفاءة عالية، وكان الأمين العام هو السفير عدنان عمران من سورية. وبعد أن أنهى فترته الأولى وثم التجديد له وقعت أحداث سورية واستقال أو أقيل، لا أدري، وتم اختيار المستشار طلعت حامد أميناً عاماً له، وكان هذا الاختيار مستنداً على الكفاءة والخبرة في حين كان اختيار عدنان عمران اختياراً سياسياً رغم أنه كان سفيراً ووزيراً للإعلام وهو كفؤ كدبلوماسي، ولكن العمل العربي المشترك له ظروف خاصة، ولن نتعرض لما آل إليه وضع الجامعة العربية بعد عصمت عبدالمجيد، ولكن يهمني أن أشير إلى أن معادلة 20 في المئة من أهل الثقة و80 في المئة من أهل الخبرة لم يتم الاحتفاظ بها، بل ربما حدث العكس تماماً. ولاشك أن كل أمين عام له نظرته وله ظروفه وفكره وخطته التي يسعى لتنفيذها والحكم بما له وما عليه متروك للآخرين، لأنني أعتبره غير محايد، إذ إن الأمناء العامين الثلاثة عملت معهم وتعلمت منهم وأعتبرهم قدوةً لي وأساتذة، رغم أن لكل منهم شخصية مختلفة تماماً عن الآخر، وأنا بدوري أخذت من كل منهم ما رأيته يناسبني وتركت ما لا يناسبني. المهم الآن أن البرلمان العربي على المحك في هذه المرحلة الدقيقة، ليس فقط من تطوره بل من تطور العمل العربي المشترك. وأقول على المحك لأن الظروف العربية المتغيرة تحتاج ذوي الكفاءة والخبرة بأكثر مما تحتاج ذوي الثقة. وقد رأينا كيف أودى ذوو الثقة برئيس عربي لدولة مهمة في أخطاء متكرّرة وتصادمات مع قوى عديدة في المجتمع، لأن أهل الثقة عادةً لا يفهمون أهمية الرأي الآخر، ولا يقدمون التحليل السليم للموقف، وإنما هم أحد فريقين إما فريق القبول والامتثال والتنفيذ أياً كانت النتائج، وإما فريق تقديم النصح والاستشارة وفقاً لرأي وميول الرئيس، وكلتا الحالتين خطيرة بالنسبة للرئيس.

وأخلص مما سبق أنه لو كان الأمر بيدي لنصحت أصحاب القرار بالنسبة للبرلمان العربي وقد تم تحويله من برلمان مؤقت إلى برلمان دائم ما يستلزم تواصل الاستفادة بذوي الخبرة، ولذا فإن الفكر المتروِّي والعقلاني يقضي بإعطاء فترة ثانية للمستشار طلعت حامد حتى يمكن أن تعبر سفينة البرلمان العربي الأمواج العاتية للعمل العربي المشترك والاستفادة من خبرته المتميزة.

وأعجبني الرئيس أوباما على سبيل المثال أنه عين منافسته في الانتخابات هيلاري كلنتون وزيرة خارجية، ومنحها كل الثقة والصلاحيات في إدارة السياسة الخارجية، كما عيّن وزير الدفاع الأسبق روبرت غيتس في عهد الرئيس بوش وهو من الحزب الجمهوري وزيراً للدفاع، وظلّ في منصبه حتى قرّر هو بنفسه الاستقالة للاستعداد للعمل السياسي الحزبي. فالرئيس القوي يختار مساعدين ومعاونين ذوي شخصية وكفاءة وقوة، في حين يختار الرئيس الضعيف مساعدين له ضعفاء، وهذا هو الفارق الجوهري بين الدول التي تصعد في معراج التنمية وتلك التي تهبط وتنهار.

وأسوق مثالاً آخر من الصين، فالزعيم الصيني دنج سياوبنج اختار جيانج تزمين رئيساً للدولة، واختار جورونجي رئيساً للوزراء وهما شخصيتان متكاملتان قويتان كلٌّ له خبرته ورؤيته. ثم جاء بعدهما ثنائي خوجنتاو، ووين جياباو، وهما أيضاً شخصيتان قويتان، والشخصيتان المرشحتان بعدهما بالقوة والتوازن نفسهما، وهما أمين عام الحزب المرشح رئيساً للدولة Xi Jinping وكذلك الشخصية المرشحة رئيساً للوزراء، ولاشك أنه إذا اختار رئيس دولةٍ ما رئيساً ضعيفاً للوزراء ومحدود الخبرة والكفاءة على أساس أنه من أهل للثقة، فإن الأداء سيكون ضعيفاً، لأن المناصب القيادية العليا لا تحتمل مثل هذه الاختيارات التي تعتمد على الأهواء أو العشوائية أو أهل الثقة الذين تتكرّر أخطاؤهم، فالمؤمن كيّس فطن، ولا ينبغي أن يلدغ من جحر مرتين.

كان الله في عون العمل العربي المشترك في هذه المرحلة الملتبسة، وحمى الله مصر وجميع أراضي العروبة وبلاد الإسلام، وكما قال العلامة الباكستاني محمد إقبال إذا ضعف العرب ضعف الإسلام، فالعرب هم لحمة الإسلام ومحوره. هل يدرك العرب شعوباً وحكاماً مغزى هذا القول من مسلم باكستاني مشهور نبض قلبه دائماً بحب الإسلام والعرب، وتباكى على انقسام العرب وصراعهم فيما بينهم وضعفهم.