أثار مقالنا الأخير بشأن تأثيرات المواقف المتباينة للدول العربية والاسلامية حيال القضية الفلسطينية ردود فعل متباينة من القراء الكرام. فكل قرأه من زاوية رؤيته وهذا أمر طبيعي لا غبار عليه. هناك فريق اعتبر المقال تنكراً للقضية الفلسطينية برغم تأكيدنا في بداية المقال أن نصرة الشعب الفلسطيني هي واجب عربي واسلامي وانساني، وأن القضية الفلسطينية هي محور الصراع في المنطقة. في حين تفاعل فريق آخر ايجاباً مع المقال الذي وفر حالة من العصف الذهني بشأن موضوع بهذا القدر من الأهمية والتأثير على أوضاعنا المحلية لطالما تجاهلناها.
وتكملة للموضوع وعلى ضوء العدوان الأخير على غزة يلقي هذا المقال الضوء على المزيد من الجوانب ذات الصلة بهدف إيضاح الحقيقة وضبط بوصلة توجهاتنا.
وفقاً لأدبيات صنع القرار فإن أنجح القرارات هي تلك التي تأخذ من الخيارات المتوفرة أفضلها. ومن أسباب التباين في المواقف حيال القضية الفلسطينية هو انحصار الحل في خيارين مختلفين يتبنى أحدهما خيار المقاومة في حين يتبنى الآخر الخيار السلمي. ولكل خيار وجاهته التي تقررها المعطيات على أرض الواقع، إلا أن أياً منهما ليس بالضرورة هو الخيار الوحيد والأفضل. فخيار المقاومة يتطلب عمقاً جغرافياً وديموغرافياً متوافقاً مع هذا الخيار ولكنه غير متوفر في الوقت الحاضر. فغزة رغم الاعتداءات الاسرائيلية المدمرة، مازالت محاصرة حتى من حلفائها في العقيدة والتوجه السياسي. فأوضاع العرب الآن في أسوأ حالاتها لدرجة رضوا لأنفسهم بأن يكونوا نعاجاً. ومصر المنقسمة على ذاتها مازالت مكبلة باتفاقية كامب ديفيد وتنزف بسبب الفقر ومخلفات الاستبداد الذي شل حراكها منذ ما يزيد على نصف قرن حين تم تجميد حرية الاختيار حتى تتحرر فلسطين فضاع الاثنان معاً. وهي الآن مرشحة لعودة حرس قديم بحلة جديدة يقف متربصاً ومتوثباً للانقضاض على السلطة بعد انجلاء غبار المعركة بين حلفاء الأمس.
أما سورية والعراق فقد تكفل العرب بهما فوقفت «إسرائيل» مبتهجة لخروجهما من دائرة الصراع. أما الأردن فوضعه ومصيره غامض ومجهول، ولربما خطط له لأن يصبح الملاذ الأخير لشعب فلسطين. هكذا هي الأوضاع في عالمنا العربي الكبير. وتبقى جمهورية إيران الاسلامية التي تتبنى خيار المقاومة في محيط غير مؤهل، فهي الأخرى تسعى جاهدة لفك حصار دولي حولها الى دولة معزولة عن العالم من الناحية المصرفية والاقتصادية لتعود بتعاملاتها التجارية إلى عصور المبادلة. وهكذا يتحمل شعبها مرة أخرى تبعات معيشية قاهرة بدأت مظاهرها في نقص في الغذاء والدواء بسبب هذا الحصار الذي تشتد وطأته بالتدريج، ليتخذ شكل الحصار الذي كان مفروضاً على العراق، وذلك على أمل تجويع الشعب الايراني ليخرج شاهراً سيفه.
اما خيار الحل السلمي فقد أجهضته إسرائيل لكونها غير قادرة على البقاء في محيط مستقر يتفرغ فيه أبناء المنطقة للعلوم والابتكار والتنمية. فعوامل الديموغرافيا والجغرافية والاقتصاد لا تخدمها إلا في محيط منقسم ومشغول بنفسه. وحيث ان الصراع في المنطقة هو صراع حضاري النصر فيه للوحدة والتكامل بين شعوب المنطقة وعلى جميع الأصعدة، ارتأينا أولاً استعراض بعض من مؤشرات ضعفنا مقارنة بإمكانات عدونا، وذلك بغرض تشخيص نقاط الضعف التي لا يمكننا تجاهلها بغض النظر عن حجم التباين حيال نصرة الشعب الفلسطيني. ومن هذه المؤشرات نستعرض ما يلي:
1 - الاستبداد
ان أنظمة الحكم المستبدة هي خير ما يتمناه أي خصم لخصمه لكونها من أقوى عوامل التخلف، فالاستبداد قرين بالضعف لكونه يشل من قدرة الشعوب على الابداع والإنتاج، وما لم تتم معالجة عضال الاستبداد في الوطن العربي والاسلامي فإن نصرة الشعب الفلسطيني لن تكون متاحةً مهما حسنت النيات. فشعوب ترزح تحت الاستبداد ليس بوسعها نصرة شعوب أخرى مستعبدة. وقد تنبهت اسرائيل لهذه الحقيقة فأسست لنفسها نظاماً مغايراً لما أسّسه الأجنبي في عالمنا العربي والاسلامي.
من هنا فإن نصرة القضية الفلسطينية تصبح حقيقة واقعة عندما نبدأ أولا بتحرير ذاتنا وليس العكس. وهذا الواقع يوجب علينا النظر الى الصراع في منطقة الشرق الأوسط على انه صراع حضاري وحرب طويلة أكثر من كونه معركة يعتمد نجاحها على تزويد مجموعة هنا وأخرى هناك بسلاح ردع محدود.
2 - الاقتصاد
يعتبر النمو الاقتصادي من أبرز مؤشرات القوة، فشعب عاجز عن تأمين قوت يومه ليس بوسعه نصرة غيره. وإذا ما أجرينا مقارنة سريعة بين النمو الاقتصادي في اسرائيل وعالمنا العربي الكبير بثرواته الطبيعية الهائلة ومساحته الجغرافية والديموغرافية يتضح ما يلي:
- يعتمد الاقتصاد الاسرائيلي على صناعة التكنولوجيا ومعداتها، ودخل الفرد 29000 دولار، والناتج المحلي الاجمالي +200 مليار في اسرائيل يفوق دخل الفرد في أكثر الدول العربية ثراء، ويعتبر هذا الدخل من أعلى الدخول في العالم.
3 - التعليم
يعتبر التعليم الجامعي في اسرائيل من أرقى أنواع التعليم في العالم، وتخصص الدولة العبرية أكثر من 10 في المئة من ناتجها المحلي الاجمالي للتعليم ومثله للخدمات الصحية. في حين لا يتجاوز ما تنفقه الحكومات العربية مجتمعة على التعليم ربع ما تنفقه اسرائيل. ووفقاً لتقرير الهيئة الدولية للجودة فإن أربع جامعات من أصل عشر جامعات في اسرائيل تعتبر من أعلى مئة جامعة في العالم في حين لم تصنف أية جامعة عربية ضمن هذه الفئة. أما مؤشر الأمية فإن المقارنة بين اسرائيل (2.9 في المئة) والدول العربية (40 في المئة) يعتبر أمراً مخجلاً. فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟
وفي مجال البحث العلمي تنفق اسرائيل ضعف ما ينفقه العالم العربي مع فارق كبير في النوع والغرض. والفضل لفجوة التخلف هذه يعود للاستبداد الذي تمكن منا مع الأسف بما نملكه من ثروات سخرناها لتدمير ذاتنا سواء بسياسة الاستهلاك والتبذير والبذخ، أو بسياسة الصرف السخي على ترسيخ الأفكار الظلامية التي أفسدت العقول والنفوس حتى بات المخرج منها شبه مستحيل. من هذا المنطلق فإن أي جهد لنصرة القضية الفلسطينية يبدأ أولاً بتخطي هذا الواقع مع الأخذ بعين الاعتبار الجوانب الآتية.
1 - رغبة جميع الفصائل الفلسطينية بما فيها منظمة حماس والتي عبّر عنها خالد مشعل في مقابلته الأخيرة مع محطة السي إن إن والتي أصبحت مطابقة لتوجه الدول العربية، فإيران أو غيرها لا يمكنهم القفز على رغبة أصحاب القضية.
2 - ان التخلص من الاستبداد هو الخطوة الأولى لامتلاك القدرة على النهوض، ومساهمة إيران في هذا الجانب لا تنحصر فقط في دعم خيار المقاومة بل في تحويل نفسها إلى نموذج ديمقراطي كامل يوفر الرخاء والانفتاح الاقتصادي والسياسي للشعب الايراني. ان مثل هذا النموذج الناجح يحفز الشعوب الأخرى على اقتباسه ويساهم في التقارب والتعاون فيما بينها. أما وقوفها على الجانب الآخر وفي مواجهة مع المحيط والدول النافذة في المنطقة لأسباب أبرزها التباين في خيارات دعم القضية الفلسطينية فإن ذلك لا يساهم الا في تعزيز هواجس الخوف والفرقة لدى الشعوب، الأمر الذي يساهم في تعزيز أنظمة الاستبداد، وهذا ما تصبو اليه القوى المعادية كما نلمسه حتى في بلدان الربيع العربي حيث تمت إدارة الصراع هناك من قبل القوى المهيمنة في هذا الاتجاه وعلى خلفية من الهواجس والمخاوف لضمان أمن اسرائيل والمصالح الغربية في المنطقة أولاً.
لاشك أن الساسة في إيران مدركون لطبيعة الصراع بين الشعوب الاسلامية و إسرائيل، فهذا الصراع المزمن لا يحسمه المسلمون في صالحهم إلا بالتوافق على مشروع حضاري يجبر إسرائيل ومن ورائها الدول الكبرى الداعمة لها على التخلي عن أهدافها في الهيمنة على مقدرات المنطقة. إن إيران وبقية الدول العربية والاسلامية بإمكانهم المساهمة في بلورة هذا المشروع الحضاري وذلك بالتوافق والتكامل بهدف إفشال الخطط المتمثلة في إشغال العرب والمسلمين بأنفسهم كما هو الحال عليه في وقتنا الحاضر.
لقد تبنت مصر الناصرية، بدعم شعبي عربي وغير عربي شامل، القضية الفلسطينية ولكن من دون تبني مشروع سياسي ديمقراطي يعتمد على تسيير ذاته فضاعت مصر ومعها القضية الفلسطينية. وتكرار إيران لتجربة مشابهة وسط انقسام مذهبي إسلامي وعداء عربي فارسي مختلق لن يخدم القضية الفلسطينية بقدر ما يساهم في إلحاق الضرر البالغ بجميع الأطراف، وخصوصاً تلك التي تلتقي مذهبياً مع إيران والتي يحلو للبعض إقحامها عنوةً في هذا الصراع بل وإخراجها من ملة الاسلام في كل وقت تعبر فيه عن طموحاتها وتطلعاتها بمواطنة متكافئة.
لقد أصبحنا جميعاً بفعل هذا التباين الحاد ندور في حلقة مغلقة مفاتيحها في غير أيدينا، ولكننا مع الأسف ندفع فاتورتها لكوننا عاجزين عن التشخيص وعن الاختيار من البدائل أفضلها.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 3760 - السبت 22 ديسمبر 2012م الموافق 08 صفر 1434هـ
اي مفاومه؟؟؟!!!
النظام الايراني نظام دجل و شعوذه. يتاجر بالقضية الفلسطينية كما تاجر بها حافظ الاسد و صدام حسين. المصالح الصهيونيه و الغربية والفارسية طويلة المدى متطابقة.
ابو حسين
مقال رائع وموضوعي جدا الواقع الاسلامي عامة والعربية خاصا غير مواهل لتحرير
فلسطين حاليا بعيدا عن الحماس والعواطف يبدا التحرير بتحرير الشعوب من الاستبداد الموجود وتحقيق التنمية الحقيقي من التعليم وتطوير المناهج والتنمية
الاقتصادية بسواعد ابناءها حتى تكون شعوب منتجة في بلدانها بمشاركتها في
صنع القرار وتطوير الحياه السياسية بالديمقراطية الصحيحة بالحرية والكرامة
وعدم تهميش الشعوب عن تقرير مصيرها بالحق حتى تسطيع مجارة عدوكم
المتقدم والمطور هو يصنع معظم حاجاته بنفسه شعوب لا تملك الحرية والكرامة