يرتبط الفساد في شكله المالي أو الإداري بسوء استعمال السلطة وتوظيفها في خدمة المصالح الخاصة الضيقة، بصورة تتناقض مع القوانين الجاري بها العمل، وتفرز تكاليف سيّئة وخطيرة تطال الدولة والمجتمع.
فالفساد الإداري يقوم على تسخير السلطة لخدمة أهداف شخصية، فيما نجد الفساد المالي يشجّع الإثراء بلا سبب، بصورة تسهم في تدمير الأسس الاقتصادية للدولة وتهدّد قيام المشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وتكرّس سلوكات تعكس الاستهتار بالقوانين وتقضي على مظاهر الشفافية والمنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص.
وينطوي الفساد بشكل عام على مجموعة من الدلالات والمفاهيم، وكما يهمّ الأفراد فهو يعني الدولة بمختلف مؤسساتها أيضاً. وهو يتنوع بين شكله السياسي وما يرتبط به من خيانة وخداع وتزوير لإرادة الجماهير، وبين مظهره الإداري وما يتعلق به من استغلال السلطات المخوّلة بشكل غير مشروع في تحقيق مصالح شخصية مختلفة، وبين تجلياته المالية المرتبطة بالسّطو على المال العام والاغتناء غير المشروع.
كما تتنوّع أشكال هذه الآفة أيضاً بين فساد محلي يصيب مؤسسات الدولة وغالباً ما تنحصر تداعياته داخلياً، وفساد دولي يتجاوز من حيث أسبابه وانعكاساته حدود الدولة الواحدة، وبين فساد صغير يرتكبه بعض صغار موظّفي الدولة أو عمّال في مؤسسات خاصة بشكل فردي في علاقته بالارتشاء والمحسوبية، وفساد كبير يتورط فيه كبار موظفي الدولة أو مسئولي المؤسسات الخاصّة، وغالباً ما تكون كلفته باهظة لارتباطه بسوء استعمال السّلطة وهدر للأموال.
إن خطورة الفساد بمختلف تجلياته ومظاهره بالغة بالنظر إلى كلفته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكبرى وانعكاساته السيئة على مسار التنمية، ولذلك أضحت مكافحته وتخليق الحياة العامة مطلباً شعبياً ملحّاً زاد من حدّته تنامي الاهتمام الدولي بهذا الملف الحيوي، وهو ما تترجمه العديد من الاتفاقيات الدولية والإقليمية والتقارير الدولية التي تصدرها مجموعة من المؤسسات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية في هذا الشأن.
تصيب ظاهرة الفساد جميع المجتمعات وكل الاقتصادات، وتشكّل عائقاً خطيراً للتنمية بحيث تعطّل السير العادي للدولة، نظراً لما لها من آثار سلبية على الأفراد والمجتمع، الأمر الذي يجعل محاربتها والحد من انتشارها ضرورة أساسية وواجباً وطنياً يفرضه المصير المشترك لجميع المواطنين والفرقاء من القطاع العام أو الخاص.
ويمثل الفساد المالي أبرز أوجه الفساد التي تطال دواليب الحياة العامة سواء على المستوى الوطني أو المحلي ويشمل على الخصوص استغلال سلطة التدخل في تدبير الشئون العامة ووضع اليد على المال العام قصد تحقيق المصالح والأغراض الخاصة على حساب المصلحة العامة، وضداً لإرادة دافعي الضرائب والمنتفعين من الخدمات والمرافق العامة.
إن العوامل التي تغذّي الفساد متعدّدة، وهي تتنوع بين أسباب سياسية في علاقتها بعدم فعالية المؤسسات السياسية وضعف هامش الحريات، وغياب الشّفافية وتكافؤ الفرص بين المواطنين؛ وأسباب اقتصادية مرتبطة بهشاشة الأوضاع الاقتصادية وعدم قيامها على أسس المنافسة والشفافية وتكافؤ الفرص؛ واجتماعية مرتبطة بغلاء الأسعار وانتشار البطالة وبالاضطرابات الداخلية، وسيادة ثقافة الفساد وأسبقية المصلحة الشخصية على العامة، والاستهتار بالقوانين ووجود التباس في مفهوم المواطنة؛ وأسباب قانونية وإدارية مرتبطة بضعف الرقابة على المال العام، والتعقيدات الإدارية، وضعف القوانين وعدم مسايرتها للتطورات الاقتصادية والاجتماعية وعدم استقلالية القضاء وعدم تطوير دخل وكفاءات العنصر البشري داخل مختلف الإدارات والمؤسسات.
إن كلفة وخطورة الفساد كارثيّة بكل المقاييس على الاقتصاد والمجتمع من حيث حرمان خزينة الدولة من مجموعة من الموارد بسبب التهرّب الضريبي، ونهب الأموال العامة وإهدارها واستنزافها في أغراض شخصية، أو تهريبها نحو الخارج، عوض توجيهها نحو مشاريع تنموية اجتماعية حيوية في مجالات الصحة والتعليم والسكن والبنيات الأساسية، بما يخلق حالة من عدم الثّقة وخيبة الأمل لدى المواطن ويقتل فيه روح المبادرة والاجتهاد، ويسمح بانتشار العزوف السياسي، ويعرقل تحقّق التنمية بكل مظاهرها وأشكالها، ويفرز مظاهر من التهميش والفقر وإضعاف الدخل الفردي، والإثراء غير المشروع ويسهم في هروب الرّساميل الأجنبية وإضعاف الاستثمارات المحلية والخارجية، نتيجة لعدم نهج الشفافية والمنافسة الشريفة وتكافؤ الفرص في طرح الصفقات العمومية أمام الخواص وتدبيرها.
وعلى المستوى السياسي، ينخر الفساد جسم الدولة ويكرّس روح الانتقام داخل المجتمع، وثقافة عدم الثّقة في القوانين والمؤسسات السياسية للدولة، بالشكل الذي يؤثّر بالسلب على أمن واستقرار الدولة والمجتمع، ويعرقل أي تغيير أو إصلاح حقيقي على طريق بناء دولة الحقّ والقانون وتحقيق الديمقراطية وترسيخ مبدأ المساواة بين المواطنين. وهو ما يجعل منه عاملاً أساسياً في مصادرة الحقوق والحريات الفردية والجماعية وتقويض كيان الدولة والمجتمع وزرع البلبلة وعدم الاستقرار.
ففي مناخٍ فاسدٍ تصبح الدولة غير قادرة على وضع قواعد ملزمة أو ضمان تطبيقها وفرض العقوبات على من يقوم بخرقها، الأمر الذي يترتب عنه شيوع ثقافة رفض المساءلة والإفلات من العقاب ومقاومة عمل المؤسسات بكل الوسائل، والعمل على تأخير وعدم تفعيل القوانين الرقابية على المال العام، كما تتعقّد عملية تجديد النخب نتيجة لرغبة المنتفعين من الفساد في الحفاظ على مناصبهم ومصالحهم.
ويصبح الفساد أكثر سوءًا وخطورةً عندما يصيب جهازي القضاء والأمن ليتحولا من ذلك «الملاذ» الذي يفترض فيه حماية الحقوق والحريات وفرض احترام القانون، إلى آلية لحماية الفساد ولجعل «المفسدين» في مأمن ضد أية مساءلة أو عقاب كيفما كانت الجرائم والمخالفات المرتكبة. وتزداد خطورته أكثر عندما ينتقل إلى بعض المؤسسات التي يفترض أن تقاومه من قبيل الأحزاب السياسية والبرلمان وبعض فعاليات المجتمع المدني ووسائل الإعلام بمختلف وسائطها، حيث تصبح جزءًا من الفساد وفي خدمته ووسيلة للتغطية عليه.
وفي المغرب، حظي موضوع تخليق الحياة العامة باهتمام كبير لدى الرأي العام المغربي، باعتباره المدخل الرئيسي لكل تنمية حقيقية ومستدامة وبناء دولة القانون.
وقد استأثر موضوع تخليق الحياة العامة بأولوية كبرى ضمن مقتضيات الدستور المعدّل الذي ربط المسئولية بالمحاسبة وأكّد على الحكامة الجيّدة وعدم الإفلات من العقاب، وسعى إلى دسترة مؤسسات تتولى إعداد، وتتبّع وتنفيذ سياسات محاربة الفساد وتخليق الحياة العامة كما هو الشأن بالنسبة لمجلس المنافسة، والهيئة المركزية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، والهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، وتعزيز دور المجلس الأعلى للحسابات في مراقبة المال العام، علاوة على اعتماد مجموعة الإصلاحات القانونية في علاقتها بالتصريح بالممتلكات والصفقات العمومية والتدبير المفوض للمرافق العامة إضافة إلى اعتماد القانون المتعلق بتبييض الأموال.
وعلى رغم هذه التدابير والإجراءات الوقائية المهمة، فإن ملف الفساد الإداري ونهب المال العام لايزال مطروحاً وبحدّة، وهو ما تترجمه مختلف التقارير الدولية الصادرة عن منظمات المجتمع المدني، وتقارير المجلس الأعلى للحسابات (قضاء مالي) في هذا الشأن.
والواقع أن عدم نهج الصّرامة اللازمة في التعامل مع ملفّات الفساد الإداري والمالي بصورة استراتيجية وبعيدة عن المناسباتية، يفرغ المبادرات الإصلاحية المتخذة من كل أهمية، ذلك أن التنمية والديمقراطية لا يمكن أن يتعايشا مع الفساد والمفسدين.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3759 - الجمعة 21 ديسمبر 2012م الموافق 07 صفر 1434هـ