في مسرحية «مدرسة المشاغبين» ترِد عبارة بعد استهبال طويل من عادل إمام كي يقنع مرسي الزناتي (سعيد صالح) في حوار كوميدي غير منطقي، ووقتها الجمالية فيه أنه غير منطقي. لا منطق يمكن الاستناد إليه في غياب العقل أو تغييبه: «أنا المخ وأنت العضلات»! على الأقل في كل تلك الفوضى والعبث والهبل الذي حفلت به المسرحية والمتعة التي خلّفتها بعد أكثر من ثلاثة عقود من عرضها، ومازالت حاضرة حيَّة، يحضر الضحك المُفتقد وشبه النادر. تحضر رفاهية من نوع آخر. يحضر ذكْر «المخِّ»، مع غيابه في الوقت نفسه، وتلك هي المسألة، لتستمر المسرحية بعد جدل «ما هو المنطق»؟ و «اللغاليغ» وصولاً إلى «إيدك بتوجعك أوي يا مرسي»؟ العضلات التي تتخلى عن «مخِّها» كي تهزم العضلات المقابلة لها في تلك المعادلة.
بالعقل والرزانة، الحياة أيضاً مسرح فيه المشاغبون والطيِّبون والدمويُّون والاستغلاليُّون والإنسانيُّون، وباعة الورد وباعة الدم والأزمات وباعة الموت الذي لا حصر لصوره وشواهده، وليس بالضرورة أن ينتهي دور كل منا كما نهايات المسرحيات والأفلام. النهايات السعيدة النموذجية التي كثيراً ما تحدِّدها العضلات ولو لم يملك صاحبها ما يدلُّ على «المخّ».
بين المخِّ والعضلات صراع مُذْ بدأ الإنسان هبوطه على الأرض. مذ تعرَّف على الوحشة والفراغ. مذ اكتشف توحُشَّ الطبيعة من حوله. مذ وجد في الريح ومن بعدها السيول والزلازل والبراكين أعداء يعملون على نفيه من الحيّز الذي وجد نفسه فيه بفعل خطيئة. مذ استوطن المُوحِش من المكان، من كهوف لم تدفع عنه فضول الوحوش، ومذ وجد في الغابة سلَّة غذائه بحيواناتها ونباتاتها وصراعه المرير مع كائناتها، وصولاً إلى استئناسه ببعضها، كان يرى فيه نفسه (الإنسان) حيناً «المخ» وحيناً العضلات. فلا المخ ضمِن له النجاة في كل أحواله، ولا العضلات التي تكوَّنت وبانت بفعل رياضة قسرية بممارسته المطاردة والطرد وفّرت له تلك النجاة أيضاً. الأمور نسبية في الاثنين.
المخ في جبروته، عدمٌ واضمحلال وتخبّط وانقياد نحو الجهل والمجاهل. العضلات من دون «مخ» تقود الحياة إلى استقرارها في اضطراب، ورفاهيتها في حرمان وشخوص وبروز في عدم، في صورة عكسية لا تخلو من السخرية. المستفيدون من تلك المعادلة المقلوبة ثلّة احتكموا إلى العضلات، وأجّلوا أو غيّبوا «المخ». الصورة لن تختلف عن المسلسل الكرتوني «باباي» ولجوئه إلى وهم «السبانخ» الذي يهتدي إليه «مخّه» بعد كل «عَلقَة» ساخنة لتبرز عضلاته وتتورّم، وينتهي المشهد بما يجعلنا، يوم كنا أطفالاً، نقف على أقدامنا معرفة وتوقعاً بما يحدث، وعلى رغم خلوّ النهاية من المفاجأة إلا أننا كنا نتسمّر أمام التلفاز لتكرار الخدعة نفسها. إنها العضلات وما تُحدثه من خداع يكاد يكون متكرراً ومتواصلاً حتى يومنا هذا.
أحياناً لا تتفاجأ بأن «المخَّ» أقل درجة من الشحْم ودون التقلص في العضلات. وتتفاجأ بأن العضلات تعويض عن ندرة المخ إن لم يكن انعدامه. وأحياناً تجد في المخ زينة وأحياناً تجد فيه ما يسيء إلى حامله باعتباره بشراً، ولو افترضت أنه لدى كائن آخر ولو لم يكن آدمياً ربما كان الوضع ضمن محيطه أكثر انسجاماً وقدرة على التواصل، ولأحدثَ من جميل الفعل ما تنحني له.
ثم إن المخ اليوم في أكبر تحشيد لأدوات البطش، كأنه أداة من حديد. مأساة أن يتحوّل العقل حديداً تماماً مثلما يتحول القلب هو الآخر إلى حديد. قوّة، نعم؛ لكن عوامل التعرية كفيلة بتآكلها وانهيارها. العوامل تلك لا تمزح ولا تحب أن تسهر أو تتعاطى الحبوب المخدّرة أو حبوب الهلوسة، ومثل تلك ضمن عوامل التعرية لمخ/ خارج الحركة والرصد والتأمل وتقرير موقفه مما يحدث، وضمن أبسط الأشياء عدا المعقّد منها والذاهب في استفحاله وحرجه.
المخ يحتاج إلى عضلات. ذلك صحيح. لكنه لن يشعر بالوحشة والغربة والغباء والفراغ والتفاهة بعيداً عنها.
في المخ عضلات من نوع آخر. عضلات ما يتمخّض عنه. ما يستطيع إحداثه من فارق. العضلات هي الأخرى بحاجة إلى مخ يوجّهها كي لا تتهور في الإيذاء؛ وخصوصاً إيذاء الذين لم يأتوا إلى الحياة وشغلهم الشاغل أن يكونوا بعضلات بقدر ما أن شغلهم أن يكون بمخ.
عودة إلى مسرح الحياة العملاق. الخشبة تضاريسه والمكان الذي يسكن إليه الإنسان. أقول، الإنسان بمخ صحو وعضلات لا تبطش وإنما تعمّر. بعض الحيوانات لديها من إمكانات القوة ما تتجاوز أضخم عضلات الإنسان. في بيئتها التي لا بقاء فيها إلا للأقوى ثمة اعتبارات وثمة شروط وثمة غريزة توجّه تلك القوة بشكل دقيق. عضلات الإنسان في كثير من الأحيان تكون خارج التغطية وخارج التحكّم؛ وخصوصاً في إدمانها العبث واستمرائها الاستعراض وخلخلة المستقر والمطمئن من حيوات الناس وما حولهم.
عصارة المخ، ما ينجز والأثر الذي يترك، حسناً أو قبحاً. تظل عصارة إما حلوة أو مُرّة. العضلات هي الأخرى عصارتها وقيمتها فيما تحدثه من تقوية لضعف وإمداد لانهيار وإغاثة لمنقطع عن سبل الحياة. عصارة العضلات عمارة الحياة.
كثير من العقول أحدثت فارقاً وحسْماً في ماضي الإنسان وحاضره وستُحدث ذلك في مستقبله. وكثير منها على النقيض من ذلك. كثير من العضلات وفّرت وحفظت توازناً ما، تاريخاً وحاضراً. المستقبل هنا لا يجرؤ على الجزم بذلك. وكثير من العضلات أيضاً أسهمت في الخراب الذي يكاد يكون هويّة العالم المعاصر. الخراب بمعنى، هذه المفازات والضياع والإحساس باللا جدوى والقناعة بالتفاهة منهجاً وأسلوبَ حياة.
عودة إلى «مدرسة المشاغبين» والتي لا تخلو الحياة من بعض فصولها ومشاهدها؛ حيث الطيش والرعونة والصخب و«الاستهبال» والانفعال والافتعال أيضاً من جهة، والمراجعات، والقدرة على القفز من مرحلة الضياع والعدم إلى تقرير ما يريده أي منا وتحديده للأدوات التي توصله إلى أهدافه وبأخلاقية لا يمكن التغاضي عنها للوصول. الحياة هي الأخرى مليئة بالمخ والعضلات تماماً كـ «مدرسة المشاغبين»، ولا تعدم حواراً هو ما بعد أو ما قبل مثل: «الماجستير قبل الإعدادية وإلا بعد الإعدادية؟» والردّ من مرسي: «قبل محطة البنزيم (بالميم) على طول عند الحاج محمود». في المسرح جدّية واستهبال و«عَبَط»، تماماً مثلما هي الحياة لا تخلو من «المخ» و«العضلات» وتحتاج الاثنين معاً.
باختصار ومن دون لف أو دوران: العالم تحكمه اليوم العضلات. المخ خارج الكادر، مغيَّبٌ منفيٌّ ولا يراد له أن يكون له أدنى أثر. دليل غياب «المخ» هذا التناسل في الجنون الرديء. الجنون الذي يهدِّد سلامة وعافية هذا الكوكب.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3750 - الأربعاء 12 ديسمبر 2012م الموافق 28 محرم 1434هـ
المشكله أن "العضلات" هي المنطق و الأسلوب السائد والمتبع حاليا !!!
طبعا السبب في ذلك هو غياب "العقل" ولن نضحك على أنفسنا ونقول "لم نستخدم عقولنا" بل كلنا يعرف أين "الحقيقه" ولكن للأسف هي لغة " لمكاسب ، المصالح والمنافع ".