لا يملك من له قلب سليم إلا أن يقف إزاء المطالبات الخاصة بمنع التمييز وأهمية الشفافية في المؤسسات الرسمية، موقفا يتساوق مع ما تتمنى المملكة أن تصل إليه من قطع أشواط في هذا الموضوع المهم والمؤثر في المسيرة الديمقراطية... أي الموقف المساند لكل ما من شأنه أن يرفع التمييز أيّا كان شكله، أو مصدره أو غرضه لئلا يتراقص أمام ناظري أبناء هذا الشعب، فيرونه ما بين طامع ومستسهل له، وخائف ومشفق منه، وذلك حتى يتعايش الناس بصورة تقوم على التنافس أساسا، لا على أي اعتبار آخر، وهذا الأمر من شأنه أن يذكي حق كل مواطن في التطلع إلى تسنم المناصب القيادية في المؤسسات المختلفة، بل ويحقق ما يمكن أن نستعيره هنا «الحلم البحريني» في أن «لكل مجتهد نصيب» و«الإنسان (وليس الرجل فقط) المناسب في المكان المناسب»، وأن ليس هناك ما يمكن أن يقف في وجه الطموح والإرادة الحقة، والسعي إلى التقدم على المستوى الشخصي، وما يتبعه من تقدم على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والعملية.
هذا الكلام يساق هنا، على خلفية موضوع للكاتب تناول فيه بالتعليق، على زاوية أخرى من زوايا ندوة «التمييز» التي أقيمت برعاية مركز البحرين لحقوق الإنسان في شهر يونيو/حزيران الماضي، إذ اتصل في نهار اليوم التالي لنشر المقال، مسئول في معهد البحرين للتدريب، قائلا إن من أراد أن يرى التمييز والطائفية في البحرين بصورة جلية واضحة كما الشمس، فليقصد هذا المعهد ليرى كيف يسير التوظيف، وكيف يُقبل الطلبة فيه.
لا يمكن تمحيص هذا الكلام أو نشره على عواهنه من غير ما تدقيق وتمحيص، ومن غير اعتماد للإحصاءات المقروءة قراءة واعية، لا قراءة سياسية فقط يقصد منها إثارة الرأي العام وتسجيل «نقطة»، وربما «ضربة قاضية» في مفاصل مؤسسة ما شاع عنها تعاملها الطائفي وعُرف عنها ممارستها للتمييز، كما لا يجب أن تستغل هذه المعلومات من قبل من لا همّ لهم إلا تثبيت مواقعهم في كراسي المجالس المنتخبة، وحشو الدعايات الانتخابية المقبلة بسلسلة من «الإنجازات» التي حققوها حتى يعاد التصويت لهم، إنما ما يطلب هنا ما يمكن أن يعد معالجة لهذا الأمر، وفي جميع المؤسسات العامة أساسا حتى يطمئن كل الناس إلى أنهم سائرون إلى «أهداف» اليوم، حتى تصبح في الغد بعدما تثبت وتختبر وسائل ليس إلا، ويصبح الحديث فيها جزءا من تاريخ هذه البلاد وليس همهم اليومي.
لقد قامت الكثير من الجهات الحقوقية، والمطالبين بالشفافية، خلال السنة الماضية تحديدا بطرق كل من جامعة البحرين ووزارة التربية والتعليم طرقا ساخنا بمطارق ثقيلة من الحديد، مشككة في كل حركات وسكنات وتصريحات هاتين الجهتين بوصفهما معقلين للتمييز الطائفي، والتعتيم المضاد للشفافية المطلوبة، شارك في هذه الحملة عدد من النواب والكتاب والجمعيات المعنية، ناهيك عن الضغط الذي تقوده بعض المواقع الالكترونية «الطفولية» في أكثر الأحيان، مطالبة الوزارة والجامعة بضرورة الكشف عن الأرقام والنسب والأسماء للمقبولين في الجامعة، وقبلها للمتنافسين على بعثات وزارة التربية.
هناك من يمكنه أن يلاحظ حركة لا أقل من أنها توصف بممارسة التمييز في هاتين الجهتين في سنوات مضت، وربما كانت استشرت هذه المظاهر في سنوات النصف الثاني من التسعينات الماضية، فكان هناك إقصاء واضح على الأقل في شغل وظائف معينة، كما ابتدعت جامعة البحرين حينها نشر المقبولين بحسب أرقامهم الجامعية، حتى لا يعرف القارئ المحلي أين وقع التمييز (التمييز الطائفي هنا هو المعني) في هذا القبول، ولا تذكر في هذه الإعلانات النسب المئوية لمن تم قبولهم، وهناك كلام كثير قيل أيضا في توزيع البعثات في وزارة التربية والتعليم في هذا الوقت، وعلى أسس بعيدة عن التنافس بين أعلى المجاميع.
في هذا العام، قطعت كل من «التربية» و«الجامعة» الطريق على من يسميهم بعض من موظفي هاتين الجهتين بـ «المتصيدين» و«المتحفزين»، فأعلنت الأولى أسماء ونسب الحاصلين على البعثات، وأعلنت الثانية أسماء ونسب المقبولين في الجامعة وعددهم 8513 طالبا وطالبة في كل التخصصات، فكانتا كمن صب ماء باردا على قضبان من الحديد المحماة التي استعد أصحابها لأن يغرزوها في عيون الجهتين بالتتابع، فسكتت فجأة كل الأصوات، ولم تبادر إلا الجمعية البحرينية للشفافية لتكبر ما فعلته الجامعة و«تبارك» لها انتهاجها مسألة الشفافية في الإعلان عن أسماء ونسب الطلبة المقبولين، فيما لم يغادر الشك جمعية «الجامعيين» في الأسس التي تم عليها منح بعض الطلبة بعثات وزارة التربية ومعدلاتهم أقل من غيرهم.
ومع انتظار مماثل بأن يشجع النواب والكتاب هذا التوجه ويطالبون بأن يقوى ويستمر ويعم جميع المؤسسات البحرينية العامة، إلا أن صوتا واحدا لم ينطق في هذا الاتجاه، إذ تم تفويت فرصة لمزيد من «الردح السياسي»، وربما الطائفي أيضا في هذا الموضوع، ولم يعد هناك المزيد ليقال.
في هذه الأثناء - وعلى المستوى ذاته - أعلن معهد البحرين للتدريب قبوله 7921 طالبا وطالبة، أي بنسبة 14 في المئة مما قبلته جامعة البحرين من الطلبة لهذا العام، ولكن المعهد الذي لم يكن ضمن «سلة» الجهات التي كانت ملهمة للمهاجمين اكتفى هذا العام أيضا بنشر أرقام المقبولين فقط، غير أن الجهات النيابية والحقوقية والشفافية والجامعية و«الكتابية» صمتت صمتا مريبا حيال هذا الأمر، ولم يستنكر أحد هذا التصرف ولو من باب ذر الرماد في العيون... فجأة اختفت كل الأصوات التي كانت تلوّح لـ «الوزارة» و«الجامعة» من قبل أن تعلنا أية نتائج بـ «أننا لكم بالمرصاد»، وتوارى النواب الملوحون بقبضاتهم في الجو، ولم يعد لـ «الشفافية» ما تقوله، ولا لـ «الجامعيين» ما يعلقون به، ولا كاتب أيضا سطر بقلمه مستنكرا كما استنكر من قبل... هذا «ما» حدث، أما «لماذا» فهذا أمر يترك اليوم لعنفوان ذكاء القارئ.
إن تصرفا كهذا يغذي أقاويل بغيضة، مفادها تحول بعض الشعارات البراقة إلى واجهات طائفية تطالب بحقوق الطائفة ليس إلا، فالنواب (العدد الأكبر منهم على الأقل) صاروا معروفين، لا يدافعون إلا عن أبناء مذهبهم، ولا يستقوون إلا في سبيل الذب عن طائفتهم، وكأنهم نواب الطائفة وليسوا نواب الوطن كله، والجمعيات ذات الرائحة الواحدة تدعي أنها تدافع عن الحق ولكنها تتنكب طريقه في أول منعطف.
هنا الأمر لا يتعلق بـ «المعهد» ذاته، إذ أنه إن لم ينتهج الشفافية اليوم سينتهجها غدا، خصوصا إذا ما عرف أن عميد القبول والتسجيل في جامعة البحرين أسرّ إلى أحد الزملاء بأنه يشعر بارتياح لانتهاج الشفافية، فعلى الأقل لن تعصف به الأقاويل ككل سنة، ولكن الأمر مرتبط أساسا بجهات ضغط رسمية وشعبية لم تخلُ مواقفها من شبهة طائفية، وها هي ذي اليوم تتحقق، ولكن على أمنية أن تتنبه إلى ما تمارسه، وتعيد مراجعة أرشيف القضايا التي وقفت إلى جانبها، لتكتشف كم انزلقت في اتجاه واحد بعينه، ولكي تنفصل عن آليات الضغط التي تحاصرها، وتتنفس من خلالها وتحاول أو ترغب أو ربما تنجح في فرض أجندتها الخاصة عليها... كل ذلك أملا في الوصول إلى «الحلم البحريني».
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 375 - الإثنين 15 سبتمبر 2003م الموافق 19 رجب 1424هـ