بعد الإعلان الدستوري الذي أصدره الرئيس المصري محمد مرسي، عاود ميدان التحرير بالقاهرة، حضوره بقوة. فمنذ صدر الإعلان، استمرت التظاهرات والاعتصامات به، مصحوبة بعنف واستخدام للقوة غير مسبوق في مصر. منذ ثورة 25 يناير (كانون الاول) 2011، والأوضاع في مصر، وخصوصاً بعد إقرار اللجنة التأسيسية للدستور لمسودته، مرشحةٌ لمزيد من التصاعد، مؤذنة بانفجار شامل في معظم المحافظات، يصعب التنبؤ بنتائجه.
قراءة ما يجري الآن على الساحة المصرية، لن تكون دقيقة وممكنة، دون وضعها في السياق التاريخي، والعودة بها إلى الظروف والاصطفافات والتحالفات التي ارتبطت بثورة 25 يناير، وما تلاها من تطورات.
فاجأ زلزال يناير، معظم المصريين، ومن ضمنهم مختلف القوى السياسية. لم تكن تلك القوى متحسبة لهذه الانتفاضة العفوية. واقع الحال، أنها حتى لو أدركت ذلك، لن تمتلك التأثير فيما يجري، بعد أن جرى تجريفها من قبل النظام السابق، ولم يعد لها عمقٌ يذكر في المجتمع المصري. ولذلك لم يكن لها سوى الالتحاق بالميادين التي تجمع فيها المتظاهرون بالمدن الرئيسية، وفي المقدمة ميدان التحرير في قلب القاهرة.
القوى التي تصدرت المشهد، في ميدان التحرير «بالهبّة» هي قوى شبابية لم تمتلك من الخبرة السياسية، ما يعينها على اكتساب المشروعية الثورية، بعد تنحي الرئيس مبارك. يؤكد ذلك مراجعة الأسماء التي تصدرت قيادة مجموعة خالد سعيد، وحركة 6 أبريل (نيسان) الشبابية. فمعظم هؤلاء في مقتبل العمر، ولم يمتلكوا خبرات سياسية سابقة. التحقت بهم، فور انطلاق التظاهرات قوى سياسية ضعيفة، في إمكاناتها، وعمقها الشعبي.
وعملياً لم تكن هناك قيادة ميدانية، لما أصبح متعارفاً عليه، بثورة 25 يناير. ويمكن تقسيم القوى الحقيقية الفاعلة والمنظمة آنذاك بالمجتمع المصري، بثلاث قوى: الأولى هي قوة الحزب الحاكم الذي يقوده الرئيس الذي جرت الانتفاضة ضد حكمه، وهو الحزب الوطني. وتمثل قياداته بحكم هيمنتها على مفاصل الدولة واستغلال هذه الهيمنة لمصلحتها، وإدارتها للحكم في البلاد، قوة اقتصادية حقيقية بالمجتمع المصري.
القوة الثانية، هي الجيش، وهو بخلاف معظم الجيوش في العالم، ذو خبرة سياسية. فمنذ ثورة عرابي، لعب الجيش دوراً بارزاً في الكفاح ضد الاستعمار البريطاني، وفساد البلاط، وتمكن من الاستيلاء على السلطة في ثورة 23 يوليو (تموز) 1952. وبتفجيره للثورة ضد النظام الملكي، وإنجازاته في تأميم قناة السويس والإصلاح الزراعي، وبناء السد العالي وتصديه للعدوان الثلاثي، وتحقيق مجانية التعليم والعلاج الصحي، وتوفير الاحتياجات الرئيسية للمواطنين، امتلك شرعيةً لا تنازع، مكنته من احتكار السلطة في مصر، لأكثر من خمسة عقود، حتى انتخاب الرئيس الحالي، محمد مرسي.
القوة الثالثة، هي حركة الإخوان المسلمين، وقد تأسست عام 1929، كحركة دعوية في مدينة الإسماعيلية، بزعامة الشيخ حسن البنا، ثم ما لبثت أن تحوّلت إلى حركة سياسية. وفي الفترة التي أعقبت تأسيس الحركة، دخلت في صراعات عنيفة مع القوة الليبرالية التي يمثلها آنذاك حزب الوفد. وحين اندلعت ثورة 23 يوليو 1952 أيدتها بعد عدة أيام من قيامها، وأملت بعد أن أصدر القادة الجدد أمراً بحل الأحزاب السياسية، أن تتسلم السلطة من خلال تحالفها مع الجيش. فشلت الحركة في ذلك، ودخلت في مواجهات عنيفة مع نظام الرئيس جمال عبد الناصر، وأعدم كثيرٌ من قادتها ودخل عددٌ منهم السجن، وهربت أعداد إلى خارج البلاد، حيث أقامت تحالفاتها مع عدد من الأنظمة العربية. لم يُسمح للحركة، في عهد الرئيس مبارك بالعمل السياسي العلني، ولكنها بقيت نشطة وقوية، وتمكنت من الدخول تحت لافتات أخرى إلى البرلمان المصري.
هذه المقدمة تقودنا إلى حقيقة مؤداها أن القوى المهيأة لتسلم السلطة، بعد ثورة 25 يناير، مع غياب العمل السياسي المنظم، لن تكون خارج القوى الثلاث، فرادى أو مجتمعة. ولأن الثورة قامت أساساً ضد الحكم القائم، لم يكن متوقعاً أن يقود الحزب الحاكم التغيير، أو يشارك فيه، مع أن كثيراً من أقطابه التحقوا فيما بعد بنتائج الثورة، وكان الفائز الثاني، ضمن قائمة المرشحين لرئاسة الجمهورية، أحمد شفيق، هو أحد أقطابه.
في غمار الحراك الثوري، وغياب الحاضن الرئيسي لهذا الحراك، وفي ظل الشلل الشامل الذي ساد مؤسسات الدولة والحياة الاقتصادية، وأيضاً في ظل غياب الشرعية الثورية، انحاز الجيش إلى شعار عزل الرئيس عن الحكم. وفور تنحي الرئيس مبارك، تولى المجلس العسكري الأعلى السلطة السياسية في مصر، محافظاً على استمرارية هيمنة الجيش على الحكم.
التحق الإخوان المسلمون بالحراك الشعبي، في 28 يناير بعد ثلاثة أيام من اندلاعه، لكنهم أبقوا خطوطهم مفتوحة مع نظام الرئيس مبارك. وحين فتح الرئيس مبارك أبواب الحوار للتوصل إلى حل سياسي لما أطلق عليه بالأزمة، وفوّض نائبه المرحوم عمر سليمان بقيادة هذا الحوار، لم يتردّد الإخوان في المشاركة فيه. وخرج أحد قيادييهم، بعد أحد الاجتماعات ليثني على مسار الحوار، في الوقت الذي كان شعار إسقاط النظام يعلو على الأصوات في ميدان التحرير.
حين تسلم الجيش مهمات قيادة السلطة، ساند الإخوان هذه الخطوة والتفوا من حولها، وعملوا على إنجاز الانتخابات قبل صدور دستورٍ جديدٍ يتسق مع التحولات الجديدة.
وفي ظل غياب دستور، يدار بموجبه الحكم في البلاد، استعاض المجلس العسكري الأعلى عن ذلك، بإصدار إعلانات دستورية. وحين وصل مرسي إلى سدة الحكم، واصل هذا النهج. وقد صدر أول إعلان دستوري عن المجلس العسكري في 13 فبراير/ شباط 2011، بعد تنحي الرئيس مبارك بيومين. وفي 30 مارس/ اذار من العام نفسه، صدر إعلان دستوري آخر، منح المجلس العسكري الأعلى صلاحيات تشريعية حتى الانتهاء من إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية. وانتهت هذه الفترة بإصدار إعلان دستوري في 11 أغسطس/ اب 2012، هيأ لانتقال سلطات المجلس العسكري إلى رئاسة الجمهورية بعد انتخاب الرئيس محمد مرسي في 30 يونيو/ حزيران 2012.
الإعلان الدستوري الجديد الذي صدر في 21 نوفمبر 2012 منح رئيس الجمهورية محمد مرسي نفسه سلطات غير معهودة في الإعلانات الدستورية السابقة، وبموجبه اعتبرت قرارات الرئيس نهائيةً ونافذةً بذاتها وغير قابلة للطعن عليها بأي طريقة وأمام أية جهة. وقد نصّ الإعلان المذكور على عدم جواز التعرّض لقرارات الرئيس، سواءً بوقف التنفيذ أو الإلغاء، وأمر بغلق جميع الدعاوى المقامة المتعلّقة بسلطات الرئيس أمام أية جهة قضائية. والأنكى من ذلك كله، أن رئيس الجمهورية، بموجب إعلانه، منح نفسه حق تعيين النائب العام من بين أعضاء السلطة القضائية لمدة أربع سنوات. وانتقل من الإعلان إلى التنفيذ، فأمر بإقالة النائب العام المستشار محمود عبدالمجيد وتعيين المستشار طلعت عبدالله بديلاً منه.
ورغم أن الرئيس برّر إعلانه هذا، بأن الهدف منه هو تحقيق أهداف الثورة، وبشكل أكثر تحديداً هدف الإعلان إلى هدم بنية النظام السابق، وحماية مصر وشعبها، والتأسيس لشرعية جديدة تاجها دستور يرسي ركائز الحكم الرشيد الذي ينهض على مبادئ الحرية والعدالة والديمقراطية، وإعادة التحقيقات والمحاكمات في جرائم القتل والشروع في قتل وإصابة المتظاهرين وجرائم الإرهاب التي ارتكبت ضد الثوار وفقاً لقانون حماية الثورة، فإن معظم القوى السياسية في مصر رفضت هذه الدعاوى، وخرجت مع القوى التي صنعت الثورة إلى ميدان التحرير، في موجةٍ ثانيةٍ من موجات الثورة.
لماذا رفض إعلان الرئيس مرسي الأخير؟ ولماذا عاد الثوار إلى ميدان التحرير وانتشرت الحركات الاحتجاجية في معظم المدن المصرية؟ أسئلةٌ تكون موضوعا لحديثنا القادم بإذن الله.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3744 - الخميس 06 ديسمبر 2012م الموافق 22 محرم 1434هـ