إن انتقال مجلس التعاون من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد - والتي أكد عليها خادم الحرمين الشريفين والمجلس الأعلى أخيراً - هي مطلب شعبي بحق، ونتطلع أن يكون التزاماً رسمياً أيضاً. وذلك لأن اتحاد دول مجلس التعاون ليس هو وسيلتها للأمن والنماء فحسب، وإنما هو قبل ذلك طوق النجاة لمجتمعاتها التي - والعياذ بالله - ينذر بعضها بالنكوص، ويهددها الضياع الاقتصادي بعد نفاد الثروة النفطية واستشراء التفكك الاجتماعي بسبب ضعف الاندماج الوطني وغياب العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. هذا فضلاً عن ما أكدت عليه ديباجة النظام الأساسي للمجلس منذ ثلث قرن من كون التعاون بين دول المنطقة هو من أجل تحقيق طموحات شعوبها «نحو مستقبل أفضل وصولاً لوحدتها».
من هنا علينا في هذا المؤتمر الشعبي وفي غيره من المجالات، أن نكون صادقين مع أنفسنا وأن نُصدق حكامنا القول الذي يتوقف عليه أمن وتنمية المنطقة بعد أخذها بناصية الإصلاح الجذري المنشود في كل دولة من دولها.
والصدق يتطلب منا أن نقول وبشكل صريح وقوي إن الاتحاد الذي تطالب به شعوب المنطقة هو اتحاد يمكنها من المشاركة السياسية الفاعلة ويحقق الأمن والتنمية. ولذلك فإن الانتقال إلى نظم حكم ديمقراطية في كل دولة من دول المنطقة هو سبيل قيام اتحاد فيدرالي ديمقراطي بين دولها، كما أن توفير شروط الأمن القومي للمنطقة واستكمال متطلبات التنمية الحميدة، هما غايتا الاتحاد الذي تطالب به الشعوب.
الديمقراطية
وجدير بالتأكيد أن انتقال دول المنطقة من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد لا يمكن منطقياً أن يتحقق ألا بتوافق الحكومات وشعوبها على قيام اتحاد ديمقراطي بين دول مجلس التعاون، اتحاد يؤمن فيه كل مسئول كما يؤمن فيه أفراد وجماعات كل شعب من شعوب المنطقة، على أن الاتحاد لن يضعه تحت هيمنة حاكم فرد مطلق أو رؤية مجتمع من مجتمعات المنطقة المتنوعة حضرياً ومناطقياً وقبلياً ومذهبياً وطائفياً، وإنما يشارك جميع المواطنين في تحديد الخيارات واتخاذ القرارات العامة.
ولعل تجارب العصر الحديث الناجحة تفيد أن الاتحادات التي نجحت واستمرت وتطورت هي الدول الاتحادية التي أسست نظام حكم ديمقراطي في الوقت نفسه الذي أنشأت فيه اتحاداً بينها.
ولعل ماليزيا الدولة المسلمة ذات الممالك والمقاطعات هي من بين التجارب الاتحادية الناجحة والتي ما كان لها أن تنجح وتستمر في العصر الحديث لو لم يكن قرار الاتحاد قد صاحبه قرار الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي في الدولة الاتحادية.
من هنا أقول إن مطالبتنا الشعبية لانتقال مجلس التعاون إلى مرحلة الاتحاد يجب أن تكون مقرونة بمطالبة كل دولة فيه بالانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي، حتى يكون خيار الاتحاد مُعبّراً عن رغبة الحكومات والشعوب.
ولعل نقطة البداية في ذلك تكون بتطبيق دستور الكويت لعام 1962 نصّاً وروحاً والعودة عن تكرار تغير قانون الانتخابات من قبل السلطة التنفيذية منفردة كلما أوشك مجلس الأمة أن يمارس صلاحياته التشريعية والرقابية بوجود أغلبية معارضة تمارس دور المعارضة الفاعلة في نظام حكم ديمقراطي.
ولعل عودة البحرين لدستور 1973 وتطبيقه نصّاً وروحاً ومن ثم التوافق على قانون انتخابات ديمقراطية، هو المخرج للأزمة السياسية الراهنة، ويمكن في هذه الحالة تعديل دستور 1973 وفق آلياته لتلبية ما تم الاتفاق عليه في الميثاق.
كما أن تنقيح دستورَي قطر والإمارات والنظام الأساسي في كل من سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية من قبل جمعيات تأسيسية منتخبة وفق قانون انتخابات ديمقراطية لتصبح دساتير ديمقراطية شبيهة على الأقل بدستورَي الكويت والبحرين لعام 1973، هي الخطوة الضرورية لانتقال مجلس التعاون إلى مرحلة الاتحاد المطلوب شعبياً والمطروح رسمياً. وذلك بتأهيل دول المنطقة للانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة اتحاد فيدرالي غير مركزي ديمقراطي بين دول مجلس التعاون يوفر شروط الأمن ويحقق متطلبات التنمية المستدامة.
ولتأكيد الحاجة لمشاركة شعبية في قيام الاتحاد المنشود، أشير إلى نتائج استقصاء يقوم به موقع سياسات الخليج اعتباراً من 12 مايو/ أيار 2012، وهذا الاستقصاء على بساطته وصغر العينة فيه يشير إلى أن الاتحاد بين دول المنطقة مطلب شعبي، إذا كان معبراً عن إرادة الشعوب (52.5 في المئة) بينما قال 29.5 في المئة من المصوتين إن الاتحاد مطلوب في كل ألأحوال كما قال 17.9 في المئة إن الاتحاد مرفوض في كل الأحوال.
الأمن
الأمن أول مقاصد الاتحاد، ومن شروط تحقيق الأمن القومي في المنطقة هو الاعتماد الذاتي عسكرياً وأمنياً على قدرتها المشتركة - في إطار التكامل العربي - والتخلص تدريجياً من القواعد العسكرية والاتفاقيات الأمنية وتبعاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية المجحفة. وهذا أمر ممكن إذا أخذنا عدد سكان الاتحاد المنشود وحجمه الاقتصادي وطموحات أهل المنطقة في الاعتماد على الذات... هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى... العودة عن السياسات والتشريعات التي تطبقها كل من عمان والإمارات وقطر والبحرين، والتي أدت إلى تفاقم الخلل السكاني في المنطقة، ومنها ربط تحفيز الأجانب على شراء العقارات بمنح إقامات دائمة لمشتريها وأسرهم بصرف النظر عن حاجة العمل إليهم. وللعلم يتوقع أن تضيف هذه السياسات والتشريعات نحو 4.5 ملايين مقيم دائم - بالإضافة إلى العمالة الوافدة - في الدول الأربع التي تأخذ بها. في حين يقدر في العام 2010 عدد مواطني هذه الدول بـ 4.3 ملايين نسمة.
ومن ثم وضع استراتيجيات وطنية لإصلاح الخلل السكاني المزمن، تعيد للمواطنين دورهم الرئيسي في كل بلد بزيادة نسبة المواطنين في السكان وفي قوة العمل تدريجياً، دون زيادة في حجم الوافدين، بل تخفيض حجمهم وتحسين نوعيتهم المهنية وتعديل تركيبهم لصالح الناطقين باللغة العربية تدريجياً. هذا مع نمو عدد المواطنين وزيادة نسبتهم في السكان وقوة العمل تدريجياً لتصبح قوة العمل المواطنة 51 في المئة من إجمالي قوة العمل، ونسبة المواطنين لا تقل عن 75 في المئة من إجمالي السكان خلال العشرين عاماً المقبلة. وذلك دون إضرار بحقوق الوافدين التعاقدية والإنسانية وإنما ضمان حقوقهم العادلة وتحسين مستوى حقوقهم الإنسانية، ليكون الوافدون والدول التي قدموا منها أصدقاء للمنطقة، بعد أن يصبح المواطنون في بلدانهم هم التيار الرئيسي، يستعينون بالوافدين بقدر حاجتهم الضرورية المرحلية وفي حدود طاقتهم كمجتمع على استيعاب المقيمين.
إن تدني نسبة المواطنين في السكان وتراجع نسبة مساهمتهم في قوة العمل بشكل مستمر في جميع دول المنطقة ووصولهم إلى نحو 10 في المئة من إجمالي السكان ونحو 6 في المئة من قوة العمل في قطر والإمارات، هو أمر خطير جداً، ينبئ بعواقب وخيمة ويتطلب مواجهة جادة وعاجلة تعيد للمواطنين تدريجياً دورهم الرئيسي في المجتمع.
ولعل هذه الحاجة تتأكد لمن لا يدركها عندما يلاحظ أن دولاً كبرى مثل بريطانيا وفرنسا وسائر الدول الديمقراطية، أوقفت الهجرة وأصدرت الأحزاب المتنافسة فيها وعوداً انتخابية بتخفيضها في وقت مازالت فيه نسبة المواطنين في السكان تفوق 90 في المئة.
والجدير بالتأكيد أن بلوغ نسبة المواطنين في السكان 75 في المئة وفي قوة العمل 51 في المئة خلال عقدين من الزمن هي من الأهداف الكمية التي يمكن تحقيق قفزة فيها. هذا إذا أخضع إنتاج تصدير النفط والغاز لاعتبارات التنمية الحميدة وتم اعتماد التقنيات كثيفة رأس المال بدل كثيفة العمالة في النشاطات العامة وفي القطاع الخاص، وإذا عملت دول المنطقة على تحقيق التوظيف الكامل والفاعل لقوة العمل المواطنة. وذلك من خلال الارتقاء بتوجهات نظام التعليم الوطني ونظام التوظيف والتدريب فيها والإفادة من مواردها البشرية المتعلمة التي يتم هدرها نتيجة سوء توظيف المواطنين وخاصة المتعلمين منهم في وظائف غير مناسبة لتأهيلهم، وبسبب البطالة الظاهرة والمقنّعة والمرفهة وتدني نسبة مشاركة النساء في قوة العمل.
ولا أبالغ إذا قدّرت أن نسبة مشاركة المواطنين في قوة العمل المواطنة تقل عن 25 في المئة في المنطقة، بينما يمكن رفعها إلى 45 في المئة أسوة بالدول الأخرى. وإذا قمنا بالحد من البطالة المقنّعة والمرفهة والاجتماعية، واعتمدنا على الكوادر الوطنية في قيادة النشاطات وفق رؤية وطنية لإصلاح الخلل السكاني، فسوف تقل حاجتنا تدريجياً للعمالة الوافدة. وبذلك نتمكن من مواجهة الخلل السكاني المزمن، أحد أصعب التحديات الأمنية والوجودية الكبرى التي تهدد اليوم حاضر ومستقبل مجتمعات المنطقة واستقرارها.
التنمية
وأخيراً وليس آخراً، التنمية المستدامة هي غاية الاتحاد بين دول مجلس التعاون. فالتنمية المستدامة هي الغاية والمقصد لكل نشاط إنساني. والدول والتجمعات الاقتصادية اليوم تتعاون وفق اعتباراتها التنموية، والاتحاد المنشود بين دول المنطقة مناط به توفير متطلبات التنمية المستدامة في المنطقة قبل فوات الأوان، وهنا أرجو أن تسمحوا لي أن أعود بكم إلى «مشروع الملامح العامة لإستراتيجية التنمية في إطار أقطار مجلس التعاون» التي أعدت العام 1983 بناء على طلب الأمانة العامة لمجلس التعاون، من قبل فريق عمل وندوتين شارك فيهما نحو 100 من أبناء المنطقة، ففيها نجد من الأهداف الاستراتيجية للتنمية الحميدة ما يكفينا عن الإعادة، فهذه الأهداف الاستراتيجية التي جاء بها «مشروع الملامح العامة لاستراتيجية التنمية في إطار أقطار مجلس التعاون» عام 1983، ونشرت في كتابي «نحو استراتيجية بديلة للتنمية الشاملة « عام 1985 من قبل مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، مازالت صالحة ويمكن أن يضاف إليها أو يحذف منها ما يناسب معضلات التنمية اليوم في المنطقة ويذلل عقباتها.
وفيما يلي أعرض عناوين الأهداف الاستراتيجية الثمانية العاجلة كما وردت في المشروع، والتي يمثل كل منها استراتيجية في مجاله:
أولاً: تخفيض الاعتماد على النفط وإخضاع إنتاجه لاعتبارات التنمية.
ثانياً: تخفيض حجم قوة العمل الوافدة وتعديل تركيبها وتحسين نوعيتها.
ثالثاً: إخضاع النفقات العامة لمعايير الجدوى الاقتصادية.
رابعاً: إصلاح الإدارة الراهنة وتنميتها.
خامساً: بناء قاعدة اقتصادية بديلة.
سادساً: بناء قاعدة علمية - تقنية ذاتية متطورة.
سابعاً: إصلاح التعليم وربطه بمتطلبات التنمية.
ثامناً: توفير البيئة الملائمة لتنمية ثقافة اجتماعية مستمرة.
تلك كانت الأهداف الاستراتيجية العاجلة لـ «مشروع الملامح العامة لاستراتيجية التنمية في إطار أقطار مجلس التعاون»، وهي أهدافٌ في جوهرها ما زالت صالحة لعملية التنمية التي تشكل اليوم إحدى غايات المطالبة الشعبية بالاتحاد بين دول مجلس التعاون.
ومما لاشك فيه أن هذه الأهداف تحتاج إلى مراجعة وتطوير وملائمة لمواجهة معضلات التنمية والعقبات التي تحول اليوم دون بدء دول المنطقة عملية تنمية حميدة مستدامة، والتي لم تتمكن دول المنطقة منفردة من حلها نتيجة صغر حجم الدول وغياب إرادة التنمية التي تتطلب بالضرورة مشاركة سياسية فاعلة. كما تتطلب انتقال دول المنطقة من مرحلة التعاون إلى مرحلة اتحاد قادر على توفير شروط الأمن القومي لدول المنطقة ومتطلبات التنمية المستدامة فيها.
خاتمة
وفي الختام علينا في هذا المؤتمر وفي غيره من التجمعات الشعبية التي تنشد الإصلاح الجذري لأوجه الخلل المزمنة في دول المنطقة، واجب تكوين جماعة تضم المنتديات والجمعيات والشخصيات الشعبية المعنية بالإصلاح الجذري، يناط بها وضع رؤية مشتركة لانتقال دول المنطقة من مرحلة التعاون إلى مرحلة إقامة اتحاد ديمقراطي يوفر شروط الأمن ومتطلبات التنمية. ومن ثم طرح مطالبنا الشعبية المشتركة من خلال شخصيات شعبية حكيمة، على حكومات المنطقة وحكامها مباشرة. إضافة إلى توعية وتعبئة الرأي العام حول شعار مؤتمرنا هذا «الاتحاد بين دول مجلس التعاون مطلب شعبي»، وبذلك ننتقل بالعمل الشعبي من مجرد دعوة الانتقال من التعاون إلى الاتحاد بين دول المنطقة إلى المطالبة الشعبية السلمية الفعالة بقيام اتحاد ديمقراطي يوفر شروط الأمن ويهيّئ متطلبات التنمية المستدامة.
إقرأ أيضا لـ "علي خليفة الكواري"العدد 3742 - الثلثاء 04 ديسمبر 2012م الموافق 20 محرم 1434هـ
مقال اكثر من رائع
اولا نشكرك على هذه الاتفاته لمايجري على شعوب هذه الدول من مخاطر مستقبليه وخاصه الاجيال القادمه وشخصت العله ولكن ياأستاذنا العزيز. المشكله التي يعاني منها شعوب هذه الدول اليوم معروف لذى الجميع من المشاكل وغيرها لأن جميع القرارات هي بيد واحد بكل دوله منه وبدون مشاركت الشعب مصدر السلطات والملاحظ حتى الدول الذي اصبح فيهاء مجلس بقدرة قادر يتحولوا النواب الى مدفاع عن تصرفات الحكومه أمام الشعب كما الوزراء دائم السمع والطاعه لكي يحافظ على منصبه نعم طويل العمر فهذه حالت القائمين على حكمنا فلم نرتجئ خيرا
روح جيدة للمقال لكن الاتحاد ليس مطلب شعبي
يقول الإمام علي عليه السلام : من أحبك لشيء أبغضك لزواله. أساس الاتحاد كان ضد ايران. عندما تتطرف بعض دول الخليج ضد ايران وتتساهل الأخرى تنعدم الرابطة الحقيقية فيبغض الأخوة بعضهم البعض. صحيح هناك فوائد جانبية ولكن معظمها اختفى وهناك مشاكل بين دول الخليج من حيث الحدود والتدخل في الشؤون الداخلية. المجلس هو أقصى ما نريد ولا نريد اتحاد ومن يقول أنه مطلب شعبي فليجري استفتاء لأن الاتحاد ذريعة لتحريك القوات من دولة لدولة وإذا هناك جدية فليصدروا الخضار أولا لبعضهم البعض ثم يتحدوا. ستراوي
مقال جميل و لكن
هل تتوقع ان يتازل حكام الخليج عن 60% من مصادر دخل البترول لشعوبهم ؟ او ان يسلموا الشعب الاراضي التي نهبت من المواطنيين ؟