وأخيرا قررت جامعة الدول العربية الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي في العراق، ولكنه اعتراف مؤقت وذو طابع انتقالي بدوره وذلك وفق صيغة «وجهنا دعوة الى مجلس الحكم العراقي ليحتل موقع العراق الى حين تشكيل حكومة ذات سيادة». وأردف السيد فاروق القدومي، الذي أعلن نتائج اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب ردا على سؤاله عن الاعتراف بشرعية المجلس: هذا اعتراف مؤقت وانتقالي على ان تتم المراجعة بحسب جدول زمني يقرره مجلس الحكم الذاتي. وأردف: ان المجلس وجه دعوة لحضور وزير الخارجية زيباري بشكل انتقالي ومؤقت فيما كان زيباري بدوره واضحا في طلبه الحضور والمشاركة في أعمال مجلس الجامعة بقوله: «نحن نطلب ان نشارك في الاجتماع الوزاري بشكل كامل وأن يشغل العراق الجديد موقعه بين اشقائه في الجامعة العربية وأن العراق الجديد يريد ان يحتل موقعه بين اشقائه العرب في الأسرة الدولية ويلتزم بالاتفاقات والمعاهدات الدولية وأن هناك دعما جيدا الموقف العراق من قبل الدول العربية وهناك تفهما بأنه ليس من مصلحة الدول العربية والجامعة العربية ترك العراق لوحده أو دفعه باتجاه أن ينجر الى الانعزال عن أصدقائه».
والذي تعنيه هذه التصريحات في اللغة الدبلوماسية المحسوبة، وكأنها تقاس بميزان الكيماوي، الذي يجمع العناصر الى بعضها بعضا بدقة متناهية، كما تجمع لغة الدبلوماسي الكلمات لتحسب دلالاتها على ظاهرها وباطنها دقة الموقف، وحقيقة القرار.
القراءة الأولى في ظاهر التصريحات الآنفة تشير إلى ان اصحابها اعتمدوا سياسة السير خطوة خطوة، للتلاقي في منتصف الطريق. فإذا كانت تصريحات بعض الوزراء العرب ركزت على الطابع الانتقالي والمؤقت، فإن تصريح وزير خارجية العراق الجديد يشير الى ضرورة المشاركة الكاملة، ويحذر من دفع العراق الى العزلة عن اشقائه العرب، كما يذكر بالوقائع الجديدة في العراق التي من بينها الطابع الانتقالي للمرحلة، لكن ذلك لا يفقد مجلس الحكم مشروعيته في تمثيل العراق في المحافل العربية والدولية، ولا يعفيه من التزاماته، في علاقاته الخارجية، وفق منطوق القانون الدولي، وما يصح فيه من توصيف قانوني للوضع العراقي الجديد.
وفي هذا الأمر تبرز مسألتان مهمتان:
1- مسألة وجود العراق تحت الاحتلال الأميركي - البريطاني، مع مفاعيل هذا الوجود على الصعيد الدولي بما فيه قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وعلى الصعيد الوطني، بما اختاره الشعب العراقي من طريقة التعامل مع المرحلة الانتقالية وخصوصا العمل على جلاء الاحتلال، ونقل السلطات، ولو بطريقة تدريجية، إلى القوى الحية والفاعلة في اوساط الشعب العراقي ومكوناته الاجتماعية والسياسية، داخل وحدته الوطنية العامة.
2- المسألة الثانية: موقف الدول العربية، من الواقع العراقي الجديد، ما تعلق بمسألة الاحتلال وكذلك خيارات الشعب العراقي، ضمن ظروف المرحلة الانتقالية، وفي هذا الأمر، تتكون في موقف الدول العربية ازدواجية التعامل مع الواقع الجديد من خلال العمل على مساعدة الشعب العراقي في مرحلته الانتقالية، كجلاء الاحتلال وانتقال السلطات الى المؤسسات الوطنية العراقية.
الاحتلال الاميركي، وفق تصريحات بريمر، يرى الأمر في شقيه، ادارة الاحتلال وادارة انتقال السلطات الى العراقيين تدريجيا. فيما تذهب المواقف العربية الى انتقاد الشق الثاني المتعلق بانتقال السلطات الى العراقيين، وتغض النظر، ولو نسبيا عن مسألة إدارة الاحتلال وبدل أن تجد خطوات انتقال السلطة إلى العراقيين التأييد العربي الواسع «كما هو الحال في فلسطين المحتلة على سبيل المثال لا الحصر والقياس» تتوجه حملات النقد الى السلطة العراقية الانتقالية، وأكثر ما يلفت النظر في هذا النقد، أنه يعارض وبطريقة ملتبسة، مشاركة القطاعات الواسعة من الشعب العراقي في الحكم الانتقالي وذلك مخافة أن تترسخ موازين قوى محلية، لا يبدو أن بعض المنتقدين العرب يوافقون على ترسيخها في نظام الحكم العراقي الجديد. فيما ترتفع اصوات مؤيدة لبقاء القديم على قديمه. وهذا ما يفسر اصرار المسئولين في مجلس الحكم العراقي، على استخدام مصطلح سياسي ذي معنى لا فت عنوانه «العراق الجديد».
إن في العراق حقيقتين واقعيتين:
1- الاحتلال الاميركي - البريطاني للاراضي العراقية.
2- سقوط النظام العراقي الديكتاتوري السابق وقيام موازين قوى جديدة، لبناء عراق جديد.
والحقيقة الواقعية الأولى، غير مرتبطة بالحقيقة الواقعية الثانية. بمعنى ان قيام نظام جديد يمثل في الواقع نقيض الاحتلال، ويمثل مستقبل العراق الموحد، وصاحب السيادة الوطنية الكاملة. وهذا الشكل من الوقائع يحمل جهة السلب في الترابط. لأن المقاومة الفعلية للاحتلال، تقوم على نهوض الشعب العراقي وتسلم مسئولياته الوطنية وذلك يعني تقصير عمر الاحتلال، وتقريب جلاء المحتلين عن بلاد الرافدين وقد اختار الشعب العراقي بأوسع فئاته، هذا النوع من المقاومة الوطنية السلمية، لادارة المرحلة الانتقالية الراهنة، فيما كل الخيارات الاخرى تدفع العراق الى اتون الفوضى والضياع، وهي تطيل من امد الاحتلال وتقدم إليه مسوغات البقاء.
إن الشعب العراقي قادر على ادارة نفسه بنفسه، وهو اختار اسلوبه في مواجهة الاحتلال، بطريقة مناسبة لظروف العراق السابقة، ولطبيعة الحرب التي حملت القوى الخارجية الى الداخل العراقي الجريح، والممزق بفعل النظام الدكتاتوري السابق وما جلب من ويلات على العراق وشعبه. فهل تكون مساعدة العراق، من الاشقاء العرب، بالدعوة الى استعادة الوضع السابق تحت شعارات، لا تمت بصلة الى الوقائع الجديدة ولا الى الخيارات الحقيقية للشعب العراقي؟
إن السياسة الصائبة فن شريف في معرفة حقيقة الواقع وادارته بطريقة صائبة. وهذا ما يعرفه الاشقاء العرب جيدا. لكن ماذا نفعل بكل الأبواق التي صمتت طويلا على مأساة العراق. وصدحت هذه الايام، بما لا يقدم إلى العراقيين، الا مزيدا من الفوضى والضياع السياسي وتمديد فترة الاحتلال.
لماذا لا تنصب الجهود على تسريع عملية زوال الاحتلال عن طريق تشجيع الخطوات الضرورية لتسلم الشعب العراقي سلطاته الوطنية، ولماذا تسارع بعض الجهات الى شن الحملات على القوى العراقية المتصدية لتحمل المسئولية في ادارة بلادها ودفع الاحتلال الى الخروج في أسرع وقت ممكن؟
يوجد خيط رفيع يربط بين الوقائع والامساك به يستلزم الاخلاص لمستقبل العراق والثقة بأن الشعب العراقي قادر بنفسه على بناء مستقبله الجديد، وبطريقته الخاصة القادرة، وحدها على تحرير العراق وبنائه من جديد.
فهل يقتنع العرب، في مجلس الجامعة وفي المجالس ذات الطابع غير الرسمي، بأن العراق الجديد، قادم بقدرات شعبه، وان العراق القديم ذهب الى غير رجعة، وهو لا يستحق من العرب لا الأسف ولا الحسرة، بل يستحق دراسة متأنية، لما تؤول اليه انظمة الاستبداد، وما تحمله الشعوب الحية من قدرة على بناء نفسها من جديد، وتلك سنة الحياة وفيها من حكمة السياسة وقواعدها ما يستحق النظر والتأمل.
العدد 374 - الأحد 14 سبتمبر 2003م الموافق 18 رجب 1424هـ