لعل المتتبع للرأي العام في الآونة الأخيرة التي تلت الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول 2012، سيلاحظ بوضوح ما أثاره فيلم أو مقاطع من فيلم «براءة المسلمين» innocence of muslims من جدل وردود فعل قوية لم تشهد مثله لا الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية ولا الفيلم الهولندي «فتنة» Fitna، وذلك لخصوصية اللحظة التاريخية التي يمر بها العالم العربي الإسلامي خصوصاً؛ وبطبيعة الحال تصاعدت عدة رؤى وتضاربت عدة قراءات وتحليلات ليس للفيلم في ذاته بل لإفرازات هذا الأخير على المستوى الجيو- سياسي في المنطقة العربية وعلاقتها بالولايات المتحدة الأميركية، وكذا على المستوى السيكولوجي لملايين من المسلمين عبر العالم.
ما يهمنا في هذا المقال، ليس الوقوف على حقيقة أعمال العنف ومن كان وراءها، ولا تقصي حقيقة بعض التحليلات التي تتغذى في معظمها على نظرية المؤامرة من كون الفيلم تمويلاً إسرائيلياً، تحالف أميركي أو مساندة قبطية - مسيحية… إلخ؟ ولا تأكيداً في كون الفيلم ورقة رابحة لرسم سياسة جديدة للعالم وخصوصاً بعد الحراك العربي وتولي الأحزاب الإسلامية السلطة، ولا حتى البحث في أسباب بث هذا الفيلم في لحظة تاريخية تذكرنا بالأعمال الإرهابية للحادي عشر من سبتمبر 2001.
إن هدفنا هو الكشف عن (لا مفكر) الفيلم، أي القراءات التي بنى عليها تصوره لبداية تاريخ الإسلام؟ سؤالي إذاً ليس تحديد من كان وراء ردود الفعل العنيفة وفي صالح من تصب ولأي هدف تم رسمها؟ سؤالي يتحدد في مساءلة البنية الثقافية والتاريخية التي أدت إلى مثل تلك الأفعال وأنتجت مثل تلك الردود.
بداية لابد من الإشارة إلى فكرة أساسية: ان كل ما يمكن أن يؤدي إلى رد فعل عاطفي - انفعالي، إلا ولأن أساسه العقلي - المنطقي غير متين، علاوة على أنه يحمل في طياته بعضاً من الحقيقة التي طُمست في أحيان وحُرفت في أحيان أخرى؛ إن «سلطة الحقيقة» قد انكشفت إلا أن انكشافها لم يكن «حقيقة» بل كان «سلطة» تُجسِد «حقيقة السلطة».
على هذا الأساس – واعتماداً على ما ورد من مقاطعَ للفيلم على الإنترنت (اليوتوب) - ثمة مجموعة من القضايا التي طرحها الفيلم والتي تجد جذورها في العديد من الروايات التاريخية في التراث الفقهي - الإسلامي، والتي لاتزال تجد لها صدى في بعض الكتابات السلفية ومحاضرات وفتاوى ثلة من الفقهاء والدعاة؛ من بين تلك القضايا: قضية الرق والإماء، مسألة زواج القاصرات، تأويلات آيات القتال والجهاد، مسألة تعدد الزوجات، قضية الجزية وحكم المرتد والعلاقة مع أصحاب الأديان الأخرى، إلى غيرها من القضايا التي لم يتم بعد الحسم فيها تاريخياً، حيث نجد تضارباً للروايات وقراءات مختلفة للتراث الإسلامي – الفقهي: ما بين حرفية، تأويلية، اعتزالية، مقاصدية، صوفية وتاريخية… إلخ.
يمكن من هذا المنطلق أن نُلخص هذا القضايا في ثلاثي: الجنس، السياسة والدين؛ هذا الثلاثي الذي لايزال الحديث فيه مثيراً للجدل ولا ينفك الخطاب الفقهي يُسيطر عليه ويحتكر تأويلاته لأسباب سياسية وايديولوجية؛ لذلك فهو مرتعٌ للعديد من التوجهات السياسية والتيارات الجهادية والحركات الدعوية التي باسم الدين تدعو إلى العنف وتضفي المشروعية على الاستبداد وتحارب الفكر وتؤسس لثقافة الاستبعاد والإقصاء. وقِس على ذلك الأعراض المرضية الأخرى التي يعاني منها الجسم المجتمعي المسلم والتي يمكن اعتبار ردود الفعل على الفيلم واحداً منها على المستوى السيكولوجي على الأقل.
لابد أن ثمة عوائق تَحول دون مراجعة لهذا الإرث التاريخي - الفقهي أساساً؛ من بين تلك العوائق يمكن أن نذكر على سبيل المثال الهالة والقدسية التي رسمها بعض الشيوخ والدعاة والفقهاء المعاصرين بخصوص شخصيات تاريخية، واجتهادات فقهية، وتفسيرات قرآنية؛ علاوة على ذلك يتم التخويف من إعمال العقل والنقاش المفتوح، والتحذير من التفكير والاجتهاد العقلي، وتشجيع الخطاب الدوغمائي، الشعبوي، العاطفي - الجماهيري، وتكريس ثقافة التسليم بما يُقال وبالأمر الواقع.
ختاماً أقول: أن يكون الفيلم مسيئاً لنبي الإسلام ومُحرّضاً لمشاعر المسلمين ومسّاً بمعتقداتهم فهو أمر لا يمكن إنكاره إذ شاهدنا نتائجه في ردود فعل كثير من المسلمين، لكن الأساسي هو الانتقال من المرحلة الانفعالية - العاطفية إلى المرحلة العقلانية - المعرفية من خلال تجاوز «سلطة الصورة» التي تركها الفيلم في وعينا قصد البحث في «صورة السلطة» اللاشعورية التي لانزال نعيش تحت تأثيرها دون أن نُشخصها ونحلل ميكانزماتها ونفهم تشكلها التاريخي.
هاهنا، نبدأ البحث في «لا مفكر» هذا الفيلم من خلال ما اعتمده من روايات تاريخية هي من صميم تراث الفقه والحديث والتفسير أساساً، والتي لا تفتأ تتردد على مسامعنا في خطب الجمعة ودروس الوعظ والإرشاد دون أن يدفعنا ذلك لإعادة التفكير في مدى صحتها ومعقوليتها وتطابقها مع مقاصد الدين وروح العصر؛ وربما تكون رسالة الفيلم ملخصة في عنوانه: «براءة المسلمين»، أي إن المسلمين في غالبيتهم لايزالون في مرحلة البراءة الأولى في علاقتهم بتراثهم، ولم يتم بعد الولوج إلى مرحلة النضج المعرفي القائم على البحث المتواصل والتحليل العميق والفهم الواقعي والنقد البناء؛ ذلك لأنهم لايزالون تحت وصاية خطاب أحادي لا يقبل الاختلاف والتنوع ولا يحاور مخالفيه إلا بثنائية الخير والشر.
بكلمة واحدة: ما لم يتم الخروج من مظاهر الحِجر والوصاية التي يعيشها الفكر والعقل في بلداننا العربية الإسلامية، فقد تتكرر السيناريوهات نفسها مستقبلاً، ويكون الرابح في هذا كله السياسات التي تجد في الفراغ التاريخي والالتباس المعرفي والخطاب العاطفي - الجماهيري فرصةً لبسط نظام جديد لعالم لايزال الدين فيه حقلاً لانكشاف «حقيقة السلطة» باسم «سلطة الحقيقة».
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3735 - الثلثاء 27 نوفمبر 2012م الموافق 13 محرم 1434هـ