نتابع في هذا المقال تحليل الدروس المستفادة من العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة.
الدرس الرابع: إن من مصادر القوة الوحدة في الفكر والرأي، التكنولوجيا الحديثة المتقدمة، والإيمان بالوطن مهما وقع منه من ظلم على المرء. فلقد ظلم المشركون من أهل مكة النبي الكريم، وأصحابه الذين عذبوا واضطهدوا، ولكنه (ص) قال مقولته المشهورة عندما هاجر من مكة «والله لأنكِ أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلكِ أخرجوني ما خرجت»، ونحن نمزّق وحدتنا، ونفرّق صفوفنا، ولذلك يفشل جمعنا، وتضعف إرادتنا.
إننا بددنا ثرواتنا في العبث واللهو، وقد أوضح مفكر البحرين المتميز محمد جابر الأنصاري في بعض دراساته المنشورة بأنه في عهد إسبانيا في العصور الوسطى، عندما انهالت عليها الثروات من الحروب والاستعمار، اشترت بها الذهب لزينة النساء، وهو نفس ما حدث في عهد ملوك الطوائف في الأندلس الإسلامية، ولذلك ضعفت بعد أن كانت قوة كبرى، بخلاف ما حدث في بريطانيا التي حوّلت الثروات التي حصلت عليها من الاستعمار لاستخدامها في التطور والانطلاق للتنمية وبناء القوة، أي استخدمتها لتطوير بنيانها، ولذلك انطلقت فيها الثورة الصناعية ثم التكنولوجيا، فأصبحت إمبراطوريةً، وعندما ضعفت تلك الإمبراطورية بعد الحرب العالمية الثانية بحثت عن قوة صاعدة فوجدت الولايات المتحدة وتحالفت معها.
وكذلك فعلت إسرائيل التي تحالفت بدورها مع فرنسا وبريطانيا وأميركا وتسعى للتحالف مع الصين والهند كقوى صاعدة.
إن التحالفات الدولية مستمرة عبر التاريخ، وهي أداة من أدوات تحقيق الأمن الوطني وحماية المصالح وتحقيق التقدم.
ونقول، هل يدرك العرب اليوم مغزى مثل هذا الدرس؟
الدرس الخامس: يرتبط بإعادة تقييم الموقف وإعادة تقييم العمل، فليس هناك نجاحات مستمرة بلا هزائم، ومن الضروري تسمية الأشياء بمسمياتها، وهذا ما تقوم به إسرائيل في تشكيل لجنة بحثت أسباب هزيمتها الجزئية في حرب 1973م، وفي غزوها للبنان العام 2006، وفي كل مناسبة يحدث فيها عدم تحقيق الأهداف الإسرائيلية كاملة، وترسم الخطط البالغة السرية لتحقيق تلك الأهداف في إطار زمني محدد، أما نحن فإننا نتمسك بحرب داحس والغبراء فيما بيننا، وبالظاهرة الصوتية، وشعر الفخر والهجاء، ونرفض التقدم، ونفكر دائماً في الماضي وعظمته، وننسى أن الماضي مهما كان عظيماً لا يمكن استرجاعه، ومهما كان الظلم الذي وقع فيه فلا يجب أن نعيشه ونجتر الآلام القديمة، ونعيد الحديث عن الجراح.
إن القرآن الكريم قال الحكمة الهادية «تِلْكَ أُمَّةٌ قد خلَتْ لها ما كَسَبتْ ولكُم ما كسبتُم ولا تُسأَلُونَ عمّا كانوا يعْمَلُون» (البقرة، 134). فيجب أن نفكر دائماً وننظر للمستقبل وليس إلى الماضي، فالزمن هو الشيء الوحيد الذي يسير للأمام وليس للخلف، فهل ندرك هذا العنصر الأزلي الذي خلقه الله لنا ونستفيد منه بنظرة للمستقبل وليس للماضي.
الدرس السادس: إنه من السهل بدء حرب ولكن من الصعب إنهاؤها، كما يحدث في الحريق من مستصغر الشرر يطلقه طفل أغر فيأكل الأخضر واليابس. فهل يدرك دعاة الحروب والثورات والنضال أن ذلك لا يحدث ولا تتحقق نتائجه بالتظاهر والشعارات والهتافات، وإنما بالعمل الدؤوب والإنجازات المتميزة، بالعلوم والتكنولوجيا، بالاقتصاد واحترام القانون، بالعمل السياسي كما حدث في بريطانيا عبر القرون، وليس كما حدث في فرنسا إبان الثورة الفرنسية التي استمرت أكثر من مائة عام بين مد وجزر.
إن دراسة عبر التاريخ وفنون الاستراتيجية وقواعد وقوانين العمل السياسي ضرورية لكل من يرغب في الاضطلاع بالمسئولية أو القيادة أو الزعامة.
إن لكل علم وفن من يتقنه، فالطبيب الماهر لا يمكن أن يكون جنرالاً ناجحاً، والأخير لا يمكن أن يكون مهندساً متميزاً، ورجل الدين لن يفلح أو يفهم في السياسة بعمقٍ مهما كانت درجة إتقانه للعلوم الدينية. إنني أقول هذا وأنا أدرك أن بعض العلماء ذوي العقلية الموسوعية في التاريخ الإسلامي مارسوا أكثر من عمل مثل ابن سيناء أو الغزالي أو ابن خلدون، فكانوا فرساناً في العلوم الطبيعية، وفي السياسة، وفي الفقه الديني، ولكنهم في الوقت نفسه عانوا من الحبس والاعتقال بل والموت في السجن مثل الإمام أحمد بن حنبل وابن رشد، وواجهوا الكثير من المصاعب والمتاعب والمؤامرات والدسائس.
فالسياسة لها قوانينها وقيودها وطموحاتها، والدين له صفاء وشفافية وصدق وأمانة ونزاهة.
إن شخصيةً بقدر الإمام جعفر الصادق كان أكثر عقلانية وواقعية، وعاش فقيهاً عالماً بعيداً عن دهاليز السياسة ومطامعها، وتعلّم على يديه كثير من العلماء وأئمة الفقه ومن أشهرهم الإمام أبو حنيفة النعمان صاحب مدرسة الرأي في الفقه، والذي بدوره تم سجنه لأنه رفض تولي منصب كبير القضاء في العصر العباسي.
هل هناك كثيرون في عصرنا هذا عُرضت عليهم المناصب ورفضوها وتم حبسهم دون أن يغيّروا رأيهم؟ إن ما يحدث الآن هو العكس تماماً. فهناك كثيرٌ من علماء هذا الزمان يتطلعون بحبٍ بل بشغفٍ إلى المناصب السياسية بصورة صريحة وعلانية، أو حتى من خلال التأثير فيها بطريقة غير مباشرة ولكنها فعالة، كمراجع للأحزاب السياسية التي تحمل أسماء أنصارهم ومؤيديهم، ولكن هؤلاء الأنصار أو الأتباع لا يستطيعون إبرام أي أمر دون الرجوع إليهم.
وهكذا نجد في عصرنا هذا اختلاط الحابل بالنابل والصالح بالطالح، ولهذا تراجع العرب والمسلمون من جراء الفوضى الهدامة. وعدم إسناد الأمر إلى أهله، بل إسناده للمحاسيب والأنصار وأصحاب الثقة وليس أصحاب الكفاءة، وهذا كما قال النبي الكريم من علامات الساعة.
تلك بعض عبر التاريخ، ومسئولية المثقف أن يتحدث عنها بصراحة، لعل القادة والسياسيين في بلادنا يدرسونها ويدركون أبعادها. إننا نقرع الأجراس للإنذار وللتذكير فلعلّ وعسى!
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3735 - الثلثاء 27 نوفمبر 2012م الموافق 13 محرم 1434هـ