اطل العام 3002 على المجالس في القاهرة باستطراد الحديث المتواتر على امتداد السنوات القليلة السابقة عن «رجال الاعمال» الذين غادروا البلاد واعلنوا من منافيهم المختارة انهم لا ينوون العودة إلى البلاد لعجزهم عن سداد ما اقترضوه من المصارف المحلية من اموال. والقوا بالمسئولية عن فرارهم على المصارف التي ادعوا انها ارهقتهم بفوائدها المرتفعة وبرفضها امهالهم الوقت الكافي لتدبير دفعات خدمة ديونهم. وعلى الدولة التي اتهموها بالفشل في «خلق المناخ الملائم للاستثمار» او التقصير في حمايتهم من المنافسة الاجنبية - كأن «الانفتاح الاقتصادي» ليس سياسة معلنة واليها يعود قدر كبير من الفضل في تحقيق ما اصبحوا عليه من ثروة. او الفشل في فتح اسواق لتصدير منتجاتهم، بينما يتجاهلون ما يرجع اليهم من اسباب ذلك الفشل - اقلها ما يدور بين ارتفاع اسعار تلك المنتجات بالمقارنة مع ما يماثلها من انتاج بلدان اخرى وما بين قصورها عن مستويات الجودة المطلوبة في اسواق التصدير.
القاهرة - مصطفى الحسيني
كانت الصحافة المستجدة والتي اطلقت عليها الحكومة «الصحافة المستقلة» هي التي بدأت بنشر «فضائح» هروب رجال الاعمال المحملين بديون ضخمة لمصارف القطاع العام خصوصا. دوافع تلك الصحف لكشف تلك القصص يتوقف على تحديد مفقود لطبيعتها؛ هل هي مجرد صحف صفراء تعيش على الفضائح؟ ام انها ادوات لتلك الطبقة من رجال الاعمال التي افرزها «الانفتاح» يوظفونها في خلافاتهم ومنافساتهم؟ ام انها من ادوات اجهزة الدولة تستخدمها لاغراضها؟ وما المدى «المسموح به» في كل الاحوال وما الحدود؟
علاقة رؤساء تحرير تلك الصحف باجهزة الأمن سر ذائع، كما ان بعضهم من «الكتاب» الذين اختارتهم الدولة للتعبير عنها و«تقليب» افكارها على صفحات الصحف «القومية» التي تملكها الحكومة. هذه الاسئلة لا تبقى من دون اجوبة. لكن الاجوبة - في عمومها - استنتاجات. الارجح ان تلك الصحف المستقلة تؤدي كل منها بعضا من تلك الوظائف او مزيجا منها.
معاملة النبلاء
كانت تسلية المجالس هي تعامل الحكومة مع كبار المقترضين الهاربين، توصف معاملة الحكومة لهم بأنها «معاملة النبلاء والمنقذين». فهي توجه اليهم النداءات تناشدهم «العودة إلى البلاد» و«مواصلة جهودهم في خدمة الاقتصاد الوطني» وتعدهم بان تبذل جهودها لـ «تسوية اوضاعهم مع البنوك»، وهو ما كان الشخص العادي يفهمه على انه يعني ان الدولة تعدهم بالضغط على المصارف لالغاء قسم غير قليل من ديون من يعود منهم.
من خواص المؤسسات، مثلها مثل المفاهيم انها تتحول إلى تجريد؛ لا يربط الشخص العادي بين ما لدى المصارف من اموال وما اودعه لديها المودعون. ربما كان هذا الفصل اكثر انتشارا إذ ينتشر الفقر. غالبية الناس ليس لديها ما تودعه في المصارف. معظم تعاملهم معها على انها قناة يتسلمون منها نقودا مستحقة لهم لينفقوها على مطالب حياتهم. ربما لذلك كانت وعود الحكومة للمقترضين الكبار الهاربين بتسوية اوضاعهم من المصارف تسقط على آذان غير مدركة لمغزاها الحقيقي. ما تثيره يقف عموما عند حد المقارمة الساخرة: هل كانت الحكومة ستسوي اوضاعنا لو كنا نحن المقترضين؟
على اي حال، كانت نداءات الحكومة تلك تذهب سدى. لم يعد من الهاربين احد. فاستنتج الناس انهم هربوا إلى الخارج وقد سبقتهم ملايين الدولارات التي اقترضوها من المصارف والتي تفوق قيمتها قيمة ما تعدهم به الحكومة في نطاق «تسوية اوضاعهم».
ولم يفصل عامة الناس بين هذا الاستنتاج وبين ما هم مقتنعون به بشأن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، خصوصا مؤسساتها العليا و«الزواج غير الشرعي» بينها وبين القطاع الخاص.
مفاجأة ممتدة
بدا مطلع العام 1002 في القاهرة حالا يمتزح فيها الاحباط مع الفتور، لعل كلمة الخمول هي اقرب وصف لتلك الحال. لا شيء قادر على تحريك السخط او الغضب ولا شيء يستحق الرضا. ليس ما يدعو إلى التفاؤل. وفي نظر الكثيرين لم يعد للتشاؤم متسع. اكتسب توقع الاسوأ استقرار العادة. بالنسبة إلى الشخص العادي فقد الارتفاع المتتابع لكلفة المعيشة وقع المفاجآت المزعجة. امتص الزمن تأثيره. وقعت المفاجأة الاخيرة - على خلاف المفاجآت - ممتدة على فترة بدأت في اغسطس/آب من العام قبل السابق - 1002 وتواصلت بوتيرة شبه يومية على بقية العام والعام الذي تلاه. اطل رأس المفاجأة بانخفاض سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الاميركي في قفزة اولية اقتطعت اكثر من 52 في المئة من قيمة الجنيه. تلتها قفزات اصغر كان لها تأثيرها المتراكم الذي يقيسه رجال الاقتصاد. لكن تتابع القفزات وتناقص حجمها اكسبها قدرة خلق الاعتياد، بعد ان انحدرت بالعملة الوطنية إلى ما يقارب نصف قيمتها في اقل من سنتين.
ما باليد حيلة... لابد من حيلة
كان ارتفاع الاسعار يواجه الناس عند التسوق فيثير حنقهم. لكن الحاجة إلى الضرورات كانت تدفع يد من يستطيع الدفع إلى التفتيش في اعماق الجيوب، اما من لا يستطيع فلم يكن امامه الا تخفيض متطلباته - لا توقعاته - لانه خرج لتسوق الضرورات. كان الامر بالنسبة إلى المستهلكين محدودي الدخل يتراوح بين «ما باليد حيلة» وبين «علينا ان نبحث عن حيلة» ترد غائلة نقص الغذاء وزيادة مهانة رثاثة الكساء. اصحاب الدخل المحدود - باستثناء من يعتمدون كليا او جزئيا على موارد تتحقق في الخارج، اي من عملهم او عمل ذويهم في بلدان النفط - لا يكسبون ارزاقهم بالدولار الاميركي، لكن كل شيء اصبح مربوطا به. من يبذلون عرقهم لقاء جنيهات مصرية يشهدون تراجع قدرتها على الشراء، لكن «ما باليد حيلة» او «لابد من حيلة» ولا مفر.
الزواج بعد أوانهذبول فتيات الأحلام وفتيانها
طبعا، ليست الحياة كلها غذاء وكساء. كل شيء تغير واستقر على الأسوأ وفي اتجاه الأسوأ. في بعض مناحي الحياة اصاب التغير إلى الأسوأ بعض المفاهيم التي تنظم الحياة. ارتفع معدل «العمر المناسب» للزواج. لم تعد الانثى التي تبلغ الثلاثين من دون زواج عانسا، لا في نظر نفسها ولا في نظر المجتمع. لكن هذا لا ينقص قليلا ولا كثيرا من حال الانتظار. ولا يضعف من المرارة الخفية التي يفرزها ادراك انها غالبا ستقبل زوجا - عندما يأتي ان اتى - ليس هو «فتى احلامها». او انها ستقبل شروطا للزواج وما يؤدي إليه من حياة، دونما اعتقدت انها تستحق. وليس الذكر احسن حظا؛ ضعت قدرته على توفير متطلبات الزواج. العمر الذي كان يبغيه من الانثى التي ارادها شريكة تبدأ حياتهما معا وهي في روعة الصبا وهو في شرخ الشباب، ان اقترن بها في نهاية المطاف يكون طول الانتظار قد اخذ منهما مأخذه: ما يتجاوز ذبول نضارتها وما يتعدى هبوط حيويته. نظرة كل منهما إلى نفسه. تقديره لشريكه. فسحة العمر التي تتسع لبهجة الزواج لم يبق منها الا القليل. كثيرا ما يصبح الزواج «غيابيا» بعد «شهر عسل» قصير، قد يلتحق احد الزوجين بعمل في بلد نفطي حتى «يؤمن الاولاد» الذين لم يأتوا بعد، غالبا ما يتعجلان الانجاب قبل ان تنضب خصوبة الزوجة. عندما تأتي الذرية، سرعان ما تتحول إلى شغل شاغل يقلل من متعة الابوة والامومة.
كلفة الرعاية الضرورية للاطفال تبهض اوساط الناس في المدن والقاهرة اغلاها. حصة الاسرة، اي اسرة، من «الانفاق القومي» على التعليم تفوق حصتها من انفاق الدولة على رغم مجانية التعليم المسطورة في القوانين ومن دون زيادة في جدوى الانفاق. يقول بعض المتخصصين في شئون التعليم انه ربما يكون العكس هو الصحيح وان ادارة «الانفاق القومي» على التعليم، بالعشوائية التي تجري بها في مصر الآن، تجعل ثنائية الانفاق الحكومي والعائلي تكرارا لشراء السلة الرديئة ذاتها، اي نموذجا في اهدار الموارد.
لا جدوى العمل... الاستهانة بالعمل
الاهدار لا يقتصر على الموارد المادية. منذ سنوات زعمت بعض دراسات القياس الاقتصادي ان المصري العامل يعمل 72 دقيقة يوميا. قد يكون تقدير ذلك القياس دقيقا او لا يكون، لكن الشواهد انه - عموما - صحيح. اعداد ضخمة من العاملين بأجر - اي الذين لا يعملون لحسابهم الخاص - ينفق الواحد منهم للوصول إلى مكان العمل وقتا يعادل ما بين نصف ساعات العمل الرسمية وربعها وما يبلغ حوالي ربع الدخل الذي يحصل عليه منه. النتيجة: انهاك قبل بدء العمل وترقب لما يعقبه من انهاك في طريق العودة وتبرم من العمل واستهتار به.
الاكتئاب... علامة صحة
منذ سنوات ايضا اعتبر واحد من اكبر الاطباء النفسيين في مصر - الدكتور يحيى الرخاوي - المصري غير المصاب بالاكتئاب «حالة مرضية».
الاكتئاب العام الذي تحدث عنه الرخاوي كان ثمرة خدعة انطلت على غالبية المصريين عندما نجح الرئيس السابق انور السادات في اشاعة ان تزاوجا بين السلام مع «اسرائيل» وسياسة «الانفتاح الاقتصادي» سيجلب للبلاد رخاء لم تعرفه من قبل. في البداية لعبت الارقام برؤوس الناس، من كان دخله يحسب في خانة ارقام العشرات الصغيرة وجده يقفز إلى المئات. اما من كان دخله يحسب بمئات الجنيهات دخل إلى فئة من يحصلون على الآلاف. قال وكيل وزارة سابق انه بعد تقاعده الذي تصادف مع بدء سياسة الانفتاح عمل لدى احدى الشركات المستجدة. وعندما تسلم اول راتب شهري منها انتبه إلى انه يفوق مجموع رواتبه من وظيفته الحكومية التي تدرج فيها على امتداد 72 سنة حتى وصل إلى قمة سلمها.
كان التضخم النقدي المؤدي إلى الغلاء يمتص ضخامة الارقام، انما بتدرج بطيء. مع ذلك كان الاستيقاظ على خيبة الامل مسألة وقت ليس الا. لكن خيبة الامل تلك عندما زحفت إلى مقدمة الادراك كانت خيبة امل براقة - ان جاز التعبير. اتت بعد ان تحققت بعض الوعود التي كانت تبدو قبل «الانفتاح» بعيدة المنال: الانتقال إلى مسكن افضل في احد «الاحياء الراقية» المستجدة، ربما شراء شقق للابناء، اقتناء سيارة والتعود عليها. مظاهر الدخول في طبقة اجتماعية اعلى... إلى آخره.
بينما كانت معدلات التضخم تأكل الارقام، كان ما يتبقى هو التعلق بالاهداب واستقرار خيبة الامل وما يصاحبها من اكتئاب في الاعماق.
ما الذي دفع الاكتئاب إلى الوجوه؟
هل هو انكشاف الخدعة مع التعلق بأوهامها؟ ام ادراك الخدعة مع قلة الحيلة؟ ام هي آثار سنوات الخدعة إذ قلل الرخاء من التضامن؟ ام انه استقرار تعليق الآمال على الخارج وعلى الغير؟ هل هو التعلق بماض قريب مع ادراك انه لن يعود (سنوات الستينات «المجيدة»)؟ او بماض بعيد، المعرفة بمعالمه مغرقة في التوهم، مع ادراك انه لن يعود؟ هل هو ما داخل التدين - الذي تفشى - بالنفعية على نحو لا يمكن ان يريح الضمير؟
الاسئلة كلها صائبة والاجابات عنها - مهما تنوعت وتباينت - كلها صحيحة.
الاكتئاب الذي تنطق به الوجوه حتى اصبح ملمحها الغالب، شاهد ماثل.
العدد 373 - السبت 13 سبتمبر 2003م الموافق 17 رجب 1424هـ