غزة التي تفاجئنا دائماً، تختار أن تكون المفجوعة التي لا تبكي، ولا تذل، ولا تنحني. غزة التي لا تمد يدها لتستجدي، ففيض الكرامة يكفي...
يا تلاميذَ غزَّةٍ علّمونا
بعضَ ما عندكمْ فنحنُ نسينَا
علِّمونا بأن نكونَ رجالاً
فلدينا الرجالُ صاروا عجينا... كمال قال نزار قباني.
في غزة لا فرق بين عزتهم وغزتهم، كلاهما يستوجبان الروح. ستون عاماً وأكثر لم يكن الفلسطينيون يدافعون فيها عن أرضهم وحدها، بل عن كرامة أمة.
لقد كان صراع وجود، حين تنتهك سلطةٌ دخيلة كل تفاصيل أبناء الأرض الأصليين، تلاحق نشطاءهم، تستبيح حرمات منازلهم، تقتل وتدمر كل تفاصيلهم، وتزيّف تاريخهم، بل وتعمد حتى لتغييب تراثهم الإنساني والثقافي، وتلاحق مثقفيهم، وتحطم مساجدهم، ثم تتخيّر من ذا الذي تسمح له بالصلاة في المسجد الأقصى ومن تمنع، وكأن الصلاة شأن دولة وليس شأناً يختص به الانسان وحده بينه وبين ربه.
ما يجعل هذه المرة مختلفة عن سابقاتها؛ هو تعاطي الجانب الفلسطيني، فحصار الكرامة يخلق أفق المقاومة، يقويها، ويجعل منها عصيةً على الانكسار. لم تعد غزة منذ أيام تُقصف وحدها، لم تعد تجوع وتعرى وحدها، وما عاد أطفالها وحدهم خائفين، كلما انقضَّ العدو متسلحاً بعاره؛ ردت غزة بصواريخها التي جعلت الليل متصلاً بالنهار، وكانت هذه المرة الأولى التي نرى فيها العدو الصهيوني على رغم جسارته ووحشيته منتفضاً، خائفاً، معترفاً بحجم خسائره ومواجعه، متألماً لرد الصاع.
ربما يموت اليوم أطفال غزة، لكنهم يبعثون، فغزّة لا تموت أبداً، وغداً يلد كل رحمٍ مقاوم، فتناقضات الحياة في غزة تخلق سر قوتها، فالجنائز تسير جنباً الى جنب مع أهازيج الأعراس، في عزفٍ منمق لسيمفونية الحياة الخالدة.
غزة تعلمنا كيف نكون الإنسان، في قبالة المسوخ والغيلان، فبعض البشر لا يحمل من إنسانه سوى الصورة، بينما تغيب تفاصيله وهو يختبئ خلف بندقية تهشم ما تبقى منه.
غزة لا تطلب طعاماً، ولا تسأل عن مال. هي تطلب كرامةً عربية فُقدت منذ نصف قرنٍ أو يزيد. غزة تستصرخ كرامتنا التي غيبتها المصلحة، وإرادتنا التي ما عادت تكترث لموت الانسان، حين يتحوّل بفعل اللامبالاة لمجرد رقمٍ آخر، متناسين أن خلف هذا الرقم كانت تقبع حياة وأحبّة وتفاصيل أخرى لا نعرفها.
هكذا تريد لنا آلة القتل أن ننسى من قضوا وهم يدافعون عن حقهم، ووطنهم، وكرامتهم. هكذا يُراد لنا في تدجين فاقع أن ندير ظهورنا لمسيرة الحرية والكرامة التي لا ينضم إليها إلا الإنسان، وحده المسخ من يرى الظلم جنةً ونعيماً.
يا أطفال غزة علمونا كيف نبقى، كيف نقوى، وكيف نموت ثم نحيا ثم نحيا ثم نحيا من جديد.
إقرأ أيضا لـ "مريم أبو إدريس"العدد 3729 - الأربعاء 21 نوفمبر 2012م الموافق 07 محرم 1434هـ
رائع واكثر من رائع
كلامكي من ذهب وبالتوفيق انشألله
أكثر من الرائع
مقال أكثر من رائع...............
سلمت لنا أناملك وفكرك الراقي يامريم
أحرار
هذا تاريخ الاحرار ولا نامت اعين الجبناء.