لتحقيق النموذج التنموي الخاص بها، وضعت الصين ما أسمته «استراتيجية الخطوات الثلاث للتنمية»، وذلك منذ العام 1978 وتبلورت بصورة أكثر وضوحاً في العام 1987 وهذه الخطوات هي بمثابة أهداف مرحلية في إطار جدول زمني عام ومرن كالاتي:
الأولى: مضاعفة الناتج الوطني GNP وتأمين توفير الغذاء والكساء لجميع المواطنين بنهاية عقد الثمانينيات من القرن العشرين.
الثانية: مضاعفة رباعية للناتج القومي الإجمالي GNP بنهاية القرن العشرين.
الثالثة: زيادة الدخل الفردي ليصل لمستوى الدول المتقدمة متوسطة الدخل بحلول عام 2050.
أحدث النموذج التنموي الصيني في المجتمع نتائج بالغة الأهمية والخطورة في الوقت نفسه، وهذه النتائج منها ما هو إيجابي ومنها ما هو سلبي... وتتمثل أهم النتائج الايجابية في:
1 - ظهور ما أطلق عليه «الصعود السلمي الصيني» Peaceful Rise of China حيث تحولت الصين إلى القوة الثانية في الاقتصاد العالمي وتملك ثاني اكبر احتياطي من النقد الأجنبي يبحث عن الاستثمار في الخارج، وهي ثاني دولة تستثمر في الولايات المتحدة.
2 - تحولت الصين إلى مصنع العالم، والساعي بشدة للحصول على الموارد الطبيعية اللازمة للصناعة من المعادن والطاقة.
3 - تحولت الصين إلى الدولة الثالثة في السياحة على المستوى العالمي.
4 - أصبحت الصين قوة جاذبة للاستثمار الأجنبي وقوة باحثة عن الموارد الأولية والأسواق.
5 - ارتفاع مستوى المواطن الصيني وزيادة مستوى الحريات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
6 - ابتكار آليات جديدة في التعامل مع الدول النامية مثل منتدى التعاون الصيني الإفريقي، منتدى التعاون الصيني العربي، وحوارات إستراتيجية وشراكات إستراتيجية مع العديد من الدول أو المناطق في العالم.
أما ابرز النتائج السلبية فهي:
1 - عودة الطبقات الاجتماعية وبروز الفوارق الكبيرة في الدخول بين الحضر والريف، وبين الأقاليم، وبين الإفراد، وهو الأمر الذي كان قد اختفى منذ نجاح الثورة الشيوعية عام 1949.
2 - عودة بعض الرذائل الاجتماعية مثل المخدرات والدعارة والرشوة.
3 - ظهور الفساد والانحراف الأخلاقي والمالي في بعض قيادات الدولة والحزب بصورة واضحة حتى أن قيادات كبرى من الحزب تمت محاكمتها وإعدامها.
4 - بروز التنافس بين الأقاليم في الانجاز، ما أدى في بعض الأحيان إلى ظهور إحصاءات غير دقيقة.
5 - زيادة نسبة التلوث ونسبة استهلاك الموارد الطبيعية، ما يؤثر على مستقبل الأجيال.
6 - انتهاج سياسة الطفل الواحد، ما اثر في السلوك الاجتماعي والتركيبة الديمرغرافية والجندرية للسكان.
7 - تنوع الجودة في الإنتاج بحسب الأسعار والأقاليم وجهة التصدير، ما أدى إلى ضعف المصداقية أحيانا في بعض المنتجات الصينية وتعرض الصين للتشكيك في سمعة إنتاجها مثل حوادث غش لبن الأطفال وبعض السلع الاخرى. ونشرته وسائل الإعلام العالمية.
وقد حقق النموذج بايجابياته وسلبياته استمرار سيطرة الحزب الشيوعي على النظام السياسي، وعلى القرارات السياسية المهمة، وعلى الحياة السياسية بوجه عام.
ومن ناحية أخرى فقد حرصت الصين على معالجة السلبيات وبخاصة ظاهرة الفساد المالي والإداري والأخلاقي الذي وقع فيه بعض قيادات حزبية واخرهم بو شيلاي الذي تم فصله من الحزب كما تم فصل وزير المواصلات لحادث القطار الفائق السرعة والذي راح ضحيته مئات من المسافرين. كما تمت معاقبة بضع مئات من قيادات من مستويات مختلفة. إن مثل هذا الحزم والعقاب السريع كفيل بالحد من تفشي مثل هذه الظاهرة البغيضة التي انتشرت بصورة مرعبة في كثير من الدول النامية.
وفي الوقت نفسه سعت الصين لمواجهة التداعيات الناتجة عن الأزمة الاقتصادية والمالية التي اندلعت منذ عام 2008 وذلك من خلال إصدار تشريعات وضوابط إدارية أو من خلال انتهاج سياسة تحفيز الاقتصاد ومواجهة الركود ورفع مستوى المعيشة وخاصة في الريف، وتغيير طبيعة الملكية الزراعية بإتاحة الفرصة للتملك العائلي والتملك الخاص، وتطوير البنية الأساسية. ويمكن أن نشير إلى أهم تلك السياسات في النقاط التالية:
الأولى: الاتجاه نحو التغيير من اقتصاد موجه للتصدير إلى اقتصاد موجه للاستهلاك الداخلي من خلال رفع القدرات الشرائية للمواطن الصيني بزيادة دخله وحثه على الإنفاق بدلا من الادخار. والتوجه لتنمية الغرب والداخل الصيني وعدم الاقتصار على المناطق الشرقية.
الثانية: التوجه لصناعات التكنولوجيا والمعرفة، وصناعة السياحة، ولذلك تحولت الصين إلى قوة كبرى لإنتاج المعرفة والتكنولوجيا وكذلك القوة السياحية الثالثة في العالم.
الثالثة: تنشيط الاستهلاك عبر آليات مبتكرة منها:
أ - تنشيط السياحة الداخلية بزيادة عدد الإجازات ومن ثم زيادة حركة المواطنين الصينيين للتعرف على بلادهم.
ب - توفير المسكن والتعليم الخاص وشبه الحكومي، ما يجتذب المواطن للإنفاق ويغير من تفكيره وسلوكه الاقتصادي في الاعتماد الكامل على الدولة.
ج - تخفيض سعر الفائدة على الودائع في البنوك للحفز على الاستهلاك، والحد من الادخار، ورفع قيمة العملة تدريجيا، ما يزيد من الطلب على الاستهلاك الداخلي وأيضا الاستيراد من الخارج للانخفاض النسبي لأسعار السلع المستوردة نتيجة ارتفاع سعر العملة الصينية تدريجيا.
د- تطوير البنية الأساسية مثل الطرق والسكك الحديد ومشروعات الكهرباء والمياه، ما يخلق مجالات جديدة للاستثمار والعمالة ويعزز النمو والنشاط الاقتصادي.
هـ - رفع مستوى الفلاح بزيادة أسعار الحاصلات الزراعية وتطوير الريف لمعالجة الهوة في الدخول بين الريف والحضر ولخلق فرص للعمل في الريف للحد من الهجرة للمدينة.
و - اعطاء المزيد من الحوافز للقطاع الخاص الصيني.
ز - إطلاق مشاريع لتحسين البيئة والاتجاه نحو الاقتصاد الأخضر لمعالجة مشاكل التلوث التي تفاقمت نتيجة النمو السريع وزيادة الوعي بمشاكل البيئة.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3717 - الجمعة 09 نوفمبر 2012م الموافق 24 ذي الحجة 1433هـ