تسعة وثلاثون عاماً، هي المسافة بين حدثين تاريخيين، لعبا دوراً رئيسياً في صياغة الخريطة السياسية لجزء من وطننا العربي، جرى تعريفه، جيوسياسياً، من قبل صناع القرار بالغرب بالشرق الأوسط. الحدث الأول، هو الرسالة التي بعث بها وزير الخارجية البريطاني، جيمس بلفور في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1917 إلى زعيم الجالية اليهودية في بريطانيا، اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد لنقلها للمؤتمر الصهيوني اليهودي. حملت الرسالة وعداً من الحكومة البريطانية بالعمل على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين . الحدث الثاني، هو العدوان البريطاني - الفرنسي - «الإسرائيلي»، على مصر وأخذ مكانه في 29 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1956.
مثّل وعد بلفور، تحدياً رئيساً للأمن القومي العربي، وارتبط منذ البداية باتفاقية سايكس- بيكو التي وقعت بين البريطانيين والفرنسيين. وقد حقق شرخين رئيسين، في جدار مشروع النهضة، الذي بشر به أقطابه، منذ انطلقت بفعالية، حركة اليقظة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد ارتكز المشروع، على انبثاق مشروع تنوير عربي، يشمل المشرق العربي، يلعب دوره في صناعة العصر العربي الجديد. وبدأت معالمه في التشكل قبل هذه الفترة، بعدة عقود في أرض الكنانة وبلاد الشام. وضمن أهداف هذا المشروع، هو تبني فكرة القومية العربية، التي اعتبرت مقدمة لأزمة لنشوء دولة مدنية في المشرق العربي، بعد تحقيق استقلاله عن السلطنة العثمانية، وتحقيق الوحدة. فكان وعد بلفور، إسفيناً مسموماً حال دون تحقيق ركني مشروع اليقظة العربية: وحدة المشرق العربي، ومشروع نهضة الأمة.
في الحدث الثاني، العدوان الثلاثي، لم تبعد أهداف العدوان على مصر، عن تلك التي تضمنها وعد بلفور. فالأهداف التي أعلن عنها، وتلك التي تكشفت لاحقاً، أوضحت بجلاء أن تقوية الكيان الصهيوني كان في قائمة أولويات العدوان. والأهداف الأخرى، هي الحيلولة دون نجاح مشروع تأميم قناة السويس، الذي استعادت جمهورية مصر، بموجبه سيادتها، على جزء حيوي من أراضيها وثرواتها. وقد أسهم دخل القناة في بناء السد العالي.
إذاً، هدف مخطط العدوان إلى تحقيق غايات مركبة، دعم الكيان الصهيوني، وضمان استمرار الهيمنة البريطانية على المنطقة، وفي مقدمتها الممر المائي الحيوي، المعروف بقناة السويس، ومنع القيادة المصرية من السير قدماً في تحقيق التنمية، وبناء الدولة الوطنية بكل تشعباتها، وخدش شرعية ثورتها.
كان الرئيس عبدالناصر، قد ذكر مراراً وتكراراً، أن الهدف من تأميم قناة السويس، هو استرجاع حقوق مصر في ثرواتها وأرضها. وأن التأميم أيضاً هو احتجاج على رفض البنك الدولي تقديم القروض اللازمة لبناء السد العالي، ووقوف الإدارة الأميركية، بشكل صارخ ضد تشييد السد. ومن وجهة نظر الرئيس عبد الناصر، فإن تشييد السد، يحقق أربعة أهداف رئيسة لمصر. فهو أولاً: يعالج بشكل نهائي، موضوع الفيضانات التي تغمر الأراضي المصرية كل عام، والتي تتسبب في إغراق الأراضي الزراعية، وتهدر جهود الفلاحين المصريين. وهو ثانياً، ينظم، وبشكل متوازن، انسيابية مياه الري لجميع الأراضي الزراعية المصرية من الجنوب إلى الشمال. وهو ثالثاً، يسهم في توسيع رقعة الأراضي الزراعية، بحيث تقابل احتياجات شعب مصر من المنتجات الزراعية. وهو رابعاً، وهذا هو الأهم يوفر حاجة مصر من الطاقة الكهرومائية.
نجح وعد بلفور، في إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. وكان ثمن ذلك هو اقتلاع الشعب الفلسطيني من جذوره، وتشريده ليعيش في مخيمات خارج وطنه. وكان تزامن ذلك مع وضع اتفاقية سايكس- بيكو، الذي قُسّم فيها المشرق العربي، بين الاستعمارين، البريطاني والفرنسي، قد حال دون تحقيق استقلال هذا الجزء من الأمة، وبالتالي عطل مشروع الوحدة العربية. وكان الكيان الصهيوني، قد مثل مساحة عازلة بين مشرق الوطن العربي ومغربه، ليحول دون تحقيق وحدة الأمة، وبالتالي ليعطل من المشروع النهضوي الذي بشرت به حركة اليقظة غداة انطلاقتها.
نقاط التماثل في المشروعين، كثيرة، كما هي أيضاً نقاط الافتراق. فقد مثل وضع وعد بلفور موضع التنفيذ، من قبل البريطانيين هزيمة كبرى، للمشروع النهضوي العربي، تسبب في تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين عن ديارهم، وجعل من التجزئة حقيقة ماثلة أمامنا، وتسبب في عدد من الحروب بين الأمة والصهاينة، في محطات عدة بدءاً من الثلاثينات، استمراراً بحرب النكبة العام، 1948 إلى العدوان الثلاثي على مصر العام 1956 وحتى نكسة يونيو العام 1967م، ومعركة العبور 1973 والغزو الصهيوني للبنان في 1982م، في متتاليات لا يبدو أن لها نهاية، وقائمتها طويلة.
نقطة التماثل الأخرى، أن الحدثين، مثلاً في لحظتهما، قمة التآمر الغربي على مستقبل الأمة. فوعد بلفور، واتفاقية سايكس- بيكو، مثلاً تنكراً لوعود بريطانية، بمساعدة العرب على تحقيق الاستقلال والنهوض، والوحدة بين أقطار المشرق العربي. وبالمثل، جاء تنفيذ العدوان الثلاثي على مصر، نتيجة اتفاق سري بين أطراف العدوان، تم قبيل عدة أيام من انطلاق العدوان. وقد جسد بحق مفهوم المؤامرة الكاملة، حيث يعقد أطراف عدة اجتماعات سرية، ويتفقون على العدوان على بلد آخر، بل ويضعون أختامهم وتواقيعهم على مشروع العدوان. والقصة أصبحت معروفة، ومعلنة ولا مجال للمزيد من التفاصيل. نقاط الافتراق كثيرة، لعل أهمها تغير موازين القوى الدولية في أثناء انطلاق العدوان الثلاثي، وصمود مقاومة شعب مصر أمام العدوان، رغم الفوارق الكبيرة في القوة العسكرية بين المهاجمين والمدافعين. والافتراق الآخر، أنه بينما تزامن وعد بلفور مع احتلال المشرق العربي، فإن العدوان الثلاثي، قد مثل بداية النهاية للوجود الاستعماري في الوطن العربي بأسره. وكان ذلك مقدمة لنشوء نظام عالمي جديد، أهم ملامحه انزياح الاستعمار التقليدي القديم، وبروز الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، كقوتين، لا تنازعهما قوى أخرى، في المسرح الدولي. لقد دفع الفراغ، الذي تأتى من هزيمة الاستعمارين التقليديين، البريطاني - الفرنسي بإدارة الرئيس أيزنهاور، لطرح مشاريع أحلاف عسكرية، تحت شعار ملء الفراغ، لم يكتب لها النجاح لتستبدل لاحقاً بحلف بغداد، والمعاهدة المركزية «السنتو» في نهاية الخمسينات. لكن ركب حركة التحرر العربية، وارتباط الشارع بها، كان أقوى بكثير من تلك المشاريع، فكان أن انتهت تلك المشاريع، وهي لما تزل في مهدها. والخلاصة في هذه المقاربة بين الحدثين، أن الأمة حين ترفض تسليم زمام مقاديرها للأجنبي، معتمدة على قدراتها الذاتية تستطيع تحقيق أهدافها، وتقترب من تلبية طموحات شعبها في الحرية والتنمية وتقرير المصير.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3716 - الخميس 08 نوفمبر 2012م الموافق 23 ذي الحجة 1433هـ