يثير التطور السياسي في أية دولة اهتمام بعض دول الجوار أما إذا كان هذا التطور التنموي والسياسي في دولة مثل الصين وخاصة إذا كان نموذجا ناجحا فانه يذكر أي باحث بالمقولة المنسوبة إلى نابليون بونابرت «دع الصين نائمة فإنها إذا تحركت اهتز العالم بأسره» وبالفعل هذا ما حدث ولاتزال تداعياته تحدث ويتابعها العالم من أقصاه إلى أقصاه وهو لا يقل أهمية وخطورة من المقولة الأخرى إذا عطست أميركا أصيب العالم بالزكام.
من هنا كانت الآمال العربية معقودة على قيام العملاق الصيني بنهضته التنموية والتطلع إلى إعادة التوازن في السياسة الدولية وانتهاء عصر الانفراد الأميركي بالهيمنة على مقدرات العالم.
وبالنظر إلى انه دائما ما ترجى عملية مراجعة كل خمس سنوات للأوضاع في الصين مع انعقاد المؤتمر العام للحزب الشيوعي الصيني فان كثيرا من الأضواء تسلط على هذا الحدث المهم وما يرتبط به من تغيرات أو تعديلات في المناصب القيادية العليا في الصين وما يترتب على ذلك من سياسات داخلية أو خارجية.
والصين في هذه المرحلة تواجه تحديا أميركيا كبيرا ليس أدل على ذلك من تخصيص مجلة الفورين افيرز الأميركية في عددها الأخير من مقالين يحللان نظرة الصين للولايات المتحدة ونظرة الولايات المتحدة للصين.
ولن نتعرض لذلك وإنما بصفتي متخصصا في الدراسات الصينية يهمني أن أقدم عرضا لخصائص النموذج التنموي الصيني ودلالاته للمنطقة العربية في هذه المرحلة من التغير في المنطقة والمخاضات التي تنتظرها في هذه المرحلة الكثيفة من التغيرات في العالم وبخاصة في اكبر قوتين معاصرتين هما الولايات المتحدة والصين. ونركز هنا على النموذج التنموي الصيني الذي أصبح يطلق عليه المعجزة الصينية او الصعود السلمي للصين.
أصبح التطور السياسي والاقتصادي الصيني المعاصر منذ حركة الإصلاح التي أطلقها الزعيم الصيني دنج سياو بنج عام 1978 يطلق عليه «النموذج التنموي الصيني».
ويستلزم فهم النموذج التنموي الصيني تحديد الإطار العام لهذا النموذج فقد اعتمد هذا النموذج على تحديد واضح للهدف، وتحديد واضح للوسيلة، ومنهج فكري واضح في العمل، وركائز واضحة للعمل الداخلي والتعامل الدولي. وسوف نقدم تعريفاً موجزاً لهذه المصطلحات الثلاثة الأولى أي الهدف والوسيلة والمنهج الفكري ونترك الركائز الاخرى للتفصيل في البند اللاحق.
الهدف: هو نقل الصين من دولة فقيرة تعاني من المجاعات إلى دولة متوسطة في مستوى المعيشة بحلول عام 2050 من خلال ما أطلق عليه التحديثات الأربعة وهي: وهي تحديث الصناعة، تحديث الزراعة، تحديث التكنولوجيا، تحديث القوات المسلحة.
الوسيلة: هي التي تؤدي إلى تحقيق الهدف مقولة دنج سياو بنج «لا يهم لون القطة طالما تصطاد الفئران» أي المرونة في الوسيلة وبعبارة أخرى البراغماتية.
المنهج الفكري: الاشتراكية بخصائص صينية، ومحورها الجمع بين ثلاث مقومات هي خصائص اشتراكية، رأسمالية السوق، تراث صيني تقليدي.
كما اعتمد هذا النموذج على عدة ركائز النموذج الصيني في العمل الداخلي ومتطلباته في السياستين الداخلية والخارجية. ويمكن أن نلخص أهم هذه الركائز في الآتي:
1 - القوة الدافعة للتطور التنموي هي ما أطلق عليه في الغرب «التنمية على أساس الاقتصاد الموجه للتصدير»Export Oriented Economy
2 - الانطلاق من مبدأ النمو غير المتوازن بالتركيز على المناطق الشرقية، كنماذج للتنمية، ثم الاتجاه إلى الغرب الصيني على أساس مبدأ التكافل والتكامل بين الأقاليم، بعبارة أخرى يبدأ التطور الجغرافي للتنمية من المناطق الشرقية ثم المناطق الوسطى ثم مناطق الشمال الشرقي ثم مناطق الغرب الصيني.
3 - السعي لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية لتمويل المشروعات في إطار خطة مركزية عامة للدولة مع حرية في التنفيذ في الأقاليم الصينية المختلفة، وفي مجالات النشاط الاقتصادي المتنوعة، وإتاحة الفرصة لها من خلال الأنواع الأربعة للملكية وهي:
1 - المشروعات ذات الملكية الخاصة كاملة.
2 - المشروعات ذات الملكية المختلطة (الدولة والقطاع الخاص).
3 - المشروعات ذات الملكية التعاونية.
4 - المشروعات المملوكة للدولة كاملة.
5 - يعتمد البناء الاقتصادي الداخلي على أساس اقتصاد السوق الاشتراكي
Socialist Market Economy القائم على ضبط الأسعار- ضبط الأجور مع السماح بالابتعاد عن مفهوم الاقتصاد الاشتراكي التقليدي حيث كون الدولة مسئولة عن الفرد من ميلاده حتى وفاته، وترك الأمر إلى حد كبير للفكر الاقتصادي الليبرالي القائم علي حرية «التنافس – حرية الربح - حرية البيع والشراء - حرية الحصول على مقومات الحياة من «مسكن – ملبس - تعليم - رعاية صحية» وإتاحة الفرصة للبحث عن العمل مع ضوابط تضمن الحد الأدنى من كل هذه المقومات، بمعنى السير على قدمين (العام والخاص) بخطى متوازية وليست بالضرورة متساوية في كل تلك المقومات.
أما ابرز توجهات السياسة الداخلية للنموذج فهي:
1 - ان يقوم بناء نموذج اقتصادي يجمع بين القديم والحديث، بمعنى انفتاح على التكنولوجيا المتقدمة، من أية دولة في العالم، وفي الوق تنفسه تطوير الصناعات القائمة منذ الخمسينيات من القرن العشرين.
2 - اطلاق الحرية الاقتصادية للأقاليم في التعامل مع الخارج في التجارة، والقروض واجتذاب الاستثمارات الأجنبية علي أساس مبدأ تنافس الأقاليم المختلفة.
3 - الانفتاح والتحرير التدريجي في التجارة والصناعة وأسعار السلع والعمالة والتأمينات والمصارف وأسعار العملة وفي السياسة الزراعية وفي اللامركزية الإدارية وفي تطور البورصة.
4 - الانفتاح والتحرر والتنوع الاقتصادي والثقافي مع ضبط الحركة والتطور السياسي من خلال الحزب الشيوعي، بعبارة أخرى تتبع الصين ما يمكن أن نسميه الإدارة والرقابة المزدوجة (الحكومة والحزب أي المسئول الحكومي والمسئول الحزبي الأول للتنفيذ والثاني للرقابة).
5 - إعطاء أولوية للاستقرار السياسي والاجتماعي، الإنتاجية الاقتصادية، الرفاهية العامة، وهي أولويات لا تنفصل عن بعضها البعض، مع تطوير فلسفة الحزب الشيوعي بإضافات جديدة باستمرار وفقا لما تسفر عنه الممارسة العملية التي تقوم أحيانا على التجربة والخطأ حيث بدأ الانفتاح بإنشاء عدد محدود من المناطق الاقتصادية الخاصة، ثم زيادتها والتوسع فيها من حيث العدد، والمساحة والمناطق الجغرافية، مع مضي الوقت، ومع ثبوت نجاحها وتحقيقها للأهداف المرجوة، كما تم تطوير دستور الحزب بإضافة دور للطبقة المتوسطة والقطاع الخاص ودور للتكنولوجيا والمعرفة، ليعكس ما تحقق من تطور على أرض الواقع.
وبالنسبة للسياسة الخارجية فقد دارت حول ثلاثة توجهات رئيسية هي:
الأول: جعل الأولوية للاقتصاد التنموي واضطلاع السياسة الخارجية بخدمة التنمية في مناخ من السلام بعيداً عن الصراع أو الحروب أو النزاعات الإقليمية أو الدولية.
الثاني: بناء علاقات اقتصادية مع مختلف الدول، بغض النظر عن نظمها الاقتصادية أو السياسية، على أساس تحقيق للمنفعة المتبادلة، وكذلك إقامة مشروعات التعاون مع الدول النامية على القروض والمساعدات وليس المعونات، وتتم القروض والمساعدات في ضوء الجدوى الاقتصادية للمشروعات بعيدا عن مفاهيم السعي للنفوذ السياسي أو وضع شروط سياسية بقدر الإمكان...
الثالث: تطوير العلاقات السياسية مع الدول الاخرى كافة لتحقيق هدف البحث عن المواد الأولية اللازمة للصناعة، والبحث عن مصادر الطاقة، والبحث عن الاستثمارات الأجنبية، وأخيراً البحث عن الأسواق.
ويمكن القول ان هذا النموذج التنموي الصيني تبلور وعمل تحت تأثير ثلاثة عوامل: الأول هو الفلسفة الصينية التقليدية ذات الطابع التوافقي والبراغماتي. والثاني هو التغيرات الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية في العالم، والثالث هو مصلحة الشعب الصيني، كما يعبر عنها الحزب الشيوعي الصيني، في إطار العقد الاجتماعي الجديد، وهو عقد افتراضي منذ مرحلة الإصلاح والانفتاح، ومضمونه غير المكتوب هو (تحقيق تقدم اقتصادي ورفع مستوى المعيشة مقابل تأجيل الإصلاح السياسي واحتكار الحزب للسلطة).
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3716 - الخميس 08 نوفمبر 2012م الموافق 23 ذي الحجة 1433هـ