العدد 3715 - الأربعاء 07 نوفمبر 2012م الموافق 22 ذي الحجة 1433هـ

متى تموت الثورات وتأفل وتتحجَّر؟

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كثيرون هم مَنْ يرفعون صوراً لأرنستو تشي غيفارا. وقليلون هم مَنْ يرفعون صوراً للمهاتما غاندي (وقد صَدقَ في ذلك صاحبنا). أيضاً، كثيرون هم مَنْ يحملون صوراً لمارتن لوثر كنج، وقليلون مَنْ يحملون (أو يعرفون حتى) صورة لابيمال غوزمان. غيفارا طبيبٌ وثائر أرجنتيني، اختار السلاح منهجاً للثورة، لتحرير دول بوليفار وجوارها. وغاندي ثائرٌ هندي، اختار السِّلمية منهجاً للثورة لتحرير الهند من الاستعمار الانجليزي.

لوثر كنج ناشط سياسي أميركي وأستاذ في الفلسفة اختار العمل السلمي لإنهاء التمييز العنصري «الأبيض» ضد السود في الولايات المتحدة الأميركية. ابيمال غوزمان هو سياسي بيروفي وأستاذ للفلسفة سعى لإقامة الديمقراطية الجديدة (دكتاتورية البروليتاريا اللينينيَّة) في البيرو. الأول، اغتاله أحد المتطرفين البِيْض، والثاني اعتقلته السلطات البيروفية في العام 1992.

عند دراسة كلّ حالة من الحالات المذكورة، ستجد أن هذه النماذج، كلٌ لديه كيانه الخاص. كيان يتأرجح ما بين الواقعية والمثالية. فغاندي أصبح أيقونة التحرير في الشرق، ولكأنه الحكيم الصيني كونفوشيوس، حيث ظلَّ صَدَاه يخيط في تجربة الهند الحديثة. أما غيفارا، فعدُّوه متطهراً من أدران السلطة، لكنه ابتلي بالطوباوية والراديكالية دون مشروع سياسي واقعي.

الحال ذاته ينطبق على لوثر كنج، الذي استطاعت خطبته «عندي حلم» أن تحشد ربع مليون أميركي أسوَد في العام 1963، ويؤسس إلى منظومة حقوقيَّة للسُّود داخل الولايات المتحدة الأميركية ويسجن قاتله مئة سنة إلاَّ عاماً. أما غوزمان، فقد أدمَى مشروعه البيرو، حتى لم يترك تطرفه اليساري، لأحد أن يتعاطف معه فيطالب بإطلاق سراحه من سجنه المحصَّن.

الحقيقة، أن هذا الأمر مدعاة للتأمل حقاً. فالربيع العربي، الذي اجتاح المنطقة، أظهر لنا نماذج مختلفة من التجارب. ومثلما قال العالِم الفيزيائي والفيلسوف الإنجليزي إسحاق نيوتن، فإن «ما يجب وضعه في الاعتبار هو ثقل التجارب لا عددها». والحقيقة، أن تجارب الصراع الثوري، والعسكرة، قد أظهرت لنا تجارب مُرَّة، غطى فيها الدم يافطات الحقوق، حتى اختفت حروفها.

فليبيا، ومنذ أن قعقع الثوار سلاحهم في مارس/ اذار من العام 2011 بمدينة بنغازي، بدأت ملامح الوجهة الثورية تتجه نحو مسارات مجهولة. حينها لم يكن لأحد القدرة أن يتحدث، لأن الصراع كان يصمُّ الآذان مع قوات القذافي، لكن أفقية السلاح وتمدده في شرق ليبيا وغربها وجنوبها وشمالها، قد جعل هذا البلد اليوم كسيحاًً، لا يستطيع أن يُشكل حتى حكومة متوافقاً عليها.

مرة نسمع عن احتلال جَيْب ثوري لمقار أمنية، أو لقاعات في البرلمان، أو للمؤتمر الوطني. بل وفي أحيان أخرى، يظهر لنا مشهد انتقامي مخيف، كما جرى في بعض المناطق المؤيدة للقذافي مثل بني وليد وغيرها من المناطق. واليوم ليبيا كدولة، لا تلوي على شيء. كل شيء فيها محكوم فيه للسلاح، ولشرعية المقاتل، الذي يرى أنه مصدر الشرعية. وبات خمسة مسلحين، قادرين على إرغام هذا المسئول أو ذاك، على الاستقالة، أو العدول عن قرار ما، وكأن البلد ترفل في الفوضى.

الحال ذاته ينطبق على سورية. فهذا البلد الذي هزَّت مظاهراته السلمية مفاصل النظام في بداية الحراك، نراه اليوم، وقد أعطبته العسكرة، وانتشار السلاح، وتحوُّل الصراع إلى حرب أهلية. اليوم مع شديد الأسف، باتت الأقليات داخل سورية، ترى أن النظام السوري، هو حاميها من التطرف! وباتت التيارات الليبرالية والعلمانية، والمتدينون المعتدلون يرون أن حاميتهم هي حكم البعث في دمشق، خوفاً من التنظيمات المتطرفة، التي باتت تحاكم الناس في الشوارع وتذبحهم، وسط فقدان الجيش الحر السيطرة على كافة التشكيلات المسلحة وفرض ثقافة واحدة عليها.

هذا الأمر مؤسف جداً. كان النظام يتآكل من الداخل. وصار العالَم ينظر له كفاقد للشرعية. هذا المسار أصبح متثلماً وأحنف الساق اليوم. لقد خَلَطَت العسكرة الثورية الأوراق، ولم يعد ما كان في السابق ممكناً اليوم. هذا الأمر هو انتصارٌ للنظام، الذي دفع بالعالم إلى زاوية الخوف، من التطرف، ليقول لهم: أنا الأصلح لكم من هؤلاء، على الأقل في هذه المرحلة. هذه مصيبة كبرى.

المسار الثوري لا يخضع للعواطف ولا لسقف العنف. فهو في الواقع قائم على معادلة حساسة، تقتضي أن يتوحَّش النظام الدكتاتوري كي تتطهر المطالبات السياسية الشرعية أكثر فأكثر. بمعنى أنه كلما زادت شراسة الأنظمة أمام سلمية العمل المطلبي، تفسَّخ الأول، وتعاظم شأو الثاني. لكن وعندما يتساويان في العنف، يصبح الأمر مجرَّد صراع دِيَكَة لا أكثر من ذلك ولا أقل.

بل ما يجب فهمه واستيعابه أن النظم السياسية الدكتاتورية الحائرة في عدالة مطالب الناس، تتوسَّل أن تجنح المعارضات السياسية أمامها إلى العنف، كي تقيم ميزاناً عادلاً من المواجهة البينية، فتضيع الحقوق والمطالبات بين أسِنَّة الرماح، ولَمَعَان السيوف، ويتحول الحديث من حديثٍ عن العدالة، إلى ضرورات الحسم الأمني والعسكري، كما يقول الأسد اليوم في سورية.

إن العمل السلمي في أي حراك سياسي يجب أن تكون له جذور وصبر لا حدَّ له كي يؤتي أكُلَه. والحقيقة، أن السِّلميَّة هي ثقافة، لأنها تعني ضبطاً للغرائز. وعندما لا تتحرَّك الغرائز، يصبح الطرفان المتقابلان: دكتاتورية وديمقراطية فقط. لكن وعندما تنفتح تلك الغرائز بكامل سِعتها، فإن شقوقها تسمح للتناقضات الدينية والمذهبية والعرقية والأيديولوجية أن تتسرَّب إلى الحراك، فتزيحه عن الجادة والهدف المنشود.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3715 - الأربعاء 07 نوفمبر 2012م الموافق 22 ذي الحجة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 6:33 ص

      الله المستعان

      إن الدول الدكتاتورية أخذت تعول على هذا المنحى وهو جرف الساحة والثورة إلى العنف والإقتتال لتأمن بقاءها على رؤوسهم ...

    • زائر 4 | 5:29 ص

      الأنظمة الديكتاتورية اكثر ما تخشاه هو الثائر المسالم

      سلمية اي حراك تحرج الانظمة القمعية فحجتها في القمع تكون معدومة خاصة في زمن مثل زمننا الذي اصبح العالم كله مكشوفا

    • زائر 3 | 12:49 ص

      رب ارجعوني,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,

      شكرا جزيلا للكاتب, حقا إنه العنف الذي يتمناه ويولده ويدعمه ويشجع عليه العرش الديكتاتوري, ليبرر عنفه ويحارب كل من تسول له نفسه المطالبة بالديمقراطية الحقيقية , فما كان منه إلا أن يحجم مطالب الأكثرية ويضخم مساوئ المتربصين الطارئين , أما سوريا البلد الجريح, فقد حولته نفس الأيادي المتربصة الطارئة إلى عنف ليس من أجل الفوضى وطلب الديمقراطية التي يسعى لها كثير من الشعب, بل من أجل تنفيذ أجندات واضحة يكون ضحيتها الشعب كل الشعب,

    • زائر 2 | 11:23 م

      العنف هو الدمار والخراب ياخوان

      الجميع يعلم نتائج العنف هو الدمار والخراب لجميع يجب ان يتحكم القعل في المطالبات بالحقوق جميع المطالب شعب البحرين مشروعة جدا ياخوان لذلك يجب ان يرفض العنف من اي طرف والصبر على السلمية لانريد البحرين ان تكون مثل سوريا او لبييا يجب ان تكون البحرين الامن والامان والاستقرار لجميع اهل البحرين الكرام ان حقوق الناس المشروعة سوف تتحقق بأذن الله وعمل المخلصين فى البلد الكريم

اقرأ ايضاً