تناولنا في الحديث الماضي، موضوع الندوة التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية، في منتصف شهر أكتوبر/ تشرين الأول، بمنتجع الحمامات في تونس، وأشرنا إلى أن من بين أهدافها العملَ على معالجة القطيعة بين التيار الإسلامي، وحليفيه السابقين، القومي والمدني، وتلمس طريق الخروج من الأزمة الراهنة التي تسببت فيها هيمنة الإسلام السياسي على مقادير الحكم في عدد من البلدان العربية.
ولأن هذا الهدف كان في أولوية اعتبارات عقد هذه الندوة، فقد حرص منظموها على أن تنتظم بقياديين من التيارات الإسلامية والقومية والليبرالية، إما من خلال تقديم أوراق بحثية، وإما بالطلب منهم التعقيب على أحد البحوث المطروحة، وإما المشاركة في النقاشات المكثفة التي شهدتها الندوة.
كانت هناك ورقة لزعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، تحت عنوان «الدين والدولة في الأصول الإسلامية»، عقّب عليه ناصيف نصار. وشارك عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف أحمد كمال أبوالمجد، ببحث تحت عنوان «مداخل إلى إصلاح الخطاب الديني المعاصر»، وقد شارك في الندوة من المغرب مدير «دار الحديث الحسنية» أحمد الخمليشي، فقدم بحثاً عن العلاقة في المغرب العربي بين الدولة وإمارة المؤمنين. كما شارك فيها المفكر الإسلامي المعروف حسن حنفي الذي قدم عدداً من التعقيبات والمداخلات، ونائب رئيس مجلس الدولة سابقاً في جمهورية مصر العربية طارق البشري، الذي قدّم بحثاً عن «علاقة الدين والدولة في مصر ما بعد الثورة»، والمفكر الإسلامي من لبنان رضوان السيد الذي حمل بحثه عنوان «الدولة والدين من منظور عصري ومنفتح».
وعن الاتجاهات المدنية والقومية، شارك سعد الدين إبراهيم الذي عقب على ورقة الشيخ الغنوشي، وعبدالمنعم أبوالفتوح الذي عقب على بحث رضوان السيد، وعبدالإله بلقزير وقد قدّم البحث الأول في الندوة تحت عنوان «الدولة والدين نظرياً، وتاريخياً، واستشرافياً»، وعبدالحسين شعبان الذي قدم مشاركات مكثفة، ورفعت سيدأحمد الذي حمل بحثه عنوان «علاقة الدين بالدولة، مقارنة بين تركيا وإيران»، وعبدالوهاب أفندي الذي عقّب على ورقة الشيخ الغنوشي. ونخبة أخرى من المفكرين العرب. كما شارك الباحث الأميركي الشهير مايكل هدسون والباحث التركي ساهين ألباي.
الظرف الخاص الذي عقدت في ظله الندوة، المتمثل في صعود الإسلام السياسي إلى السلطة بالبلدان التي طالها «الربيع العربي»، وجه البحوث والتعقيبات والمناقشات إلى الحركات السياسية الإسلامية، من حيث نشأتها وتصوراتها الفكرية والتطورات التي حدثت فيها، وأخيراً سلوكها في الحكم، بدلاً من مناقشة العلاقة بين الدين والدولة. والفرق بين الموضوعين كبير جداً.
فما أقدمت عليه بحوث المركز، هو موضوع سياسي بحت، لا يناقش الدين بما هو دين، ولا يهتم بالدولة كبناء فوقي. في حين أن عنوان الندوة، يفترض أن تركز البحوث، على القراءة والتحليل النظري، إنْ في ما يتعلق بالرؤية للدين أو وظيفة الدولة، حيث يفترض أن تحضر أفكار كانت وهيغل وروسو وهوبز، وغيرهم من مفكري مرحلة الأنوار الأوروبية، ويناقش فيه أيضاً قضايا التشريع، وعلاقة المطلق بالبناء الفوقي، وبما يسنّه الأخير من قوانين ولوائح وتشريعات. في الأول نبتعد عن الفلسفة، ونتجه إلى السياسية وتشعباتها من تكتيك وبراغماتية وما إلى ذلك من أمور ذات علاقة، لتوصيف واقع ما يجري الآن من تفاعلات سياسية في المجتمع العربي.
وهنا لا نكون بحاجة إلى الانطلاق من المقدمات، لأن ما يهم هو تشخيص الواقع، في صورته الحالية، ووعي تداعياته، صخب اللحظة وتجاذباتها، فرض نفسه على الندوة، ووجه البحوث بالطريقة التي خرجت فيها. ويتضح ذلك من البحوث التي طرحت في الندوة، فهذه البحوث باستثناءات قليلة، ركزت على حالات دراسية، لبعض البلدان العربية التي يشغل الدين حيزاً رئيساً في صياغة أو صناعة سياساتها.
فعلى سبيل المثال، ناقش البحث الخامس علاقة الدين والدولة في المملكة العربية السعودية، ودور المؤسسة (الدينية) في الحكم. عنوان البحث على أهميته، يكرس ما أوردناه من اهتمام الندوة بالسياسة على حساب التحليل النظري، لسبب بسيط هو أن البحث اهتم بتقديم قراءة عن التحالف بين المؤسستين السياسية والدينية في المملكة، وأغفل علاقة الدين، بمعناه العقدي بالدولة، باعتبارها بناء فوقياً، وقائداً للمجتمع.
مثل هذا القول يصدق على البحث المقدم عن حالة المغرب، تحت عنوان «علاقة الدين بالدولة ومؤسسة إمارة المؤمنين بالمغرب»، فهذا البحث لم يخرج عن التوصيف ولم يقدم قراءة نظرية وتحليلية، لفحوى العلاقة بين الدين والدولة في المملكة المغربية ومسوغاتها، والتداخل بين المطلق والعقد الاجتماعي، وتبني مفهوم الدولة المدنية والفصل بين السلطات، والأخير يستدعي قراءة معمقة عن تمثلات الدين في الدولة العلمانية، وهو ما لم يجر تناوله في الندوة، فيما يتعلق بالعلاقة بين الدين والدولة في الوطن العربي، بل أحيل ذلك إلى علاقة الجاليات المسلمة في الغرب.
لا تختلف الأوراق والتعقيبات التي قدمت عن علاقة الدين بالدولة في تونس وليبيا ومصر، عن بقية الأوراق، فقد نحت جميعاً باتجاه تقديم قراءة سياسية، لم تسبر غور الموضوع، ولم تناقش جوهر عنوان الندوة.
ومع التسليم بقوة الظروف التي فرضت نفسها على الندوة، وهي ظروف استثنائية، أشبه بزلازل عاتية، لم تمر بها المنطقة مطلقاً في عصرها الحديث. فإن معظم القراءات تناولت الأحداث التي جرت بمعزل تام عن التحولات الكونية والسياسية، وقرأتها في سياقات مجردة عن العوامل المحيطة. غيبت في قراءات الندوة، موضوعات العولمة والعلاقة مع القوى الكبرى، والصراع العربي الصهيوني، ومجالاتها في التحولات الأخيرة، مع أن هذه الموضوعات جميعاً، تدخل في باب السياسات، وليست لها علاقة جلية بالبناء النظري لعلاقة الدين بالدولة. وجاء «الربيع العربي»، كأنه إعصار مارس سطوته علينا من خارج المكان، في حين أنه نتاج تفاعلات إنسانية داخلية وإقليمية وعالمية، وأيضاً تعبيراً عن صراع مصالح وتوازنات قوى.
لم تجر مقارنات أو مقاربات بين ما حدث في البلدان التي تسلم الإسلام السياسي فيها مقاليد السلطة، فيما يتعلق بموضوع الندوة. اقتصر الموضوع على ورقة واحدة تناولت مقارنة بين الدين والدولة في تركيا وإيران، والغاية من المقاربة كما بدا في الورقة، هي تناول بلدين، الأول ينطلق من ولاية الفقيه، حيث السلطة هي للمرجع الديني الأعلى، والثانية، تناقش سلطة مدنية يقودها إسلام سياسي، تسلم السلطة من خلال صناديق الاقتراع، ووفقاً لدستور علماني، يفصل بشكل حاد بين الدين والدولة، ويستمد قوته التاريخية من رؤية طورانية ومن المبادئ التي صاغها كمال أتاتورك.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3709 - الخميس 01 نوفمبر 2012م الموافق 16 ذي الحجة 1433هـ