ستتواجه إسرائيل مع كل دولة في المنطقة تسعى لتحقيق توازن استراتيجي مع ذاتها ومع العالم المحيط? وهي في الجوهر ضد التحرر العربي الراهن وتخشى منه? ويرعبها تحقيق العرب أو الإيرانيين أو الأتراك أي توازن وتقدم استراتيجي يشمل التكنولوجيا والعلم والإمكانات? ويشمل فوق كل شيء الحريات والحقوق التي تؤسس لأمم ناهضة ومستقلة.
وليس سراً أن إسرائيل ضربت مصر الناصرية عدة مرات عندما سعت مصر لبناء دولة مكتملة البنيان، لكنها سعدت كثيراً بمصر مبارك التي هدمت مكونات الدولة المصرية الحديثة. إن موقف إسرائيل من البرنامج النووي الإيراني يقع في السياق التاريخي ذاته الذي يشمل بقية الدول العربية. هذا الصراع يتجاوز فلسطين، وهو في مضمونه أكبر من أن يوقفه ويتحكم به الفلسطينيون وحدهم. إن دور الفلسطينيين في هذا الصراع هو في الحد من تحقيق أهداف إسرائيل في الأرض العربية والفلسطينية والوقوف على الأرض دفاعاً عن حقوق تاريخية وأرض مستهدَفة.
إن الأهداف الإسرائيلية التي تتلخص بإحكام السيطرة على الأرض وتهميش السكان العرب وطردهم من أراضيهم والاستيطان والقدس? في ظل البحث عن حروب في الإقليم تؤدي إلى مزيد من الإخلال بالعدالة والاستنزاف العربي والفقر واللاجئين? ما يفجر الشرق الأوسط ويصنع الحروب ويدمر أسس التنمية والبناء العربية.
التناقض لايزال قائماً ومازلنا في العام ???4? إذ تفصلنا عن ذلك العام سلسلة لم تتوقف من الحروب واتفاقات الهدنة التي لم تنجح في تغيير طبيعة الصراع والمعادلات التي يتحكم بها? فاستمرار دولة يهودية وفق المواصفات الصهيونية القاضية بتجميع كل من تستطيع من يهود العالم? يتطلب سيطرة الغرب على الشرق الأوسط? ويتطلب تقسيم الشرق الأوسط إلى أجزاء أصغر من التي نجدها الآن? ويتطلب طرد مزيد من العرب وأخذ مزيد من الأراضي وبناء مزيد من المستوطنات. نجاح المشروع الإسرائيلي بشكله العنصري والاستيطاني يتطلب إخضاع العرب وجر السياسة الأميركية لصالح السياسة الإسرائيلية عند كل منعطف. والمشكلة الجوهرية مع إسرائيل كانت ولاتزال في سعي إسرائيل لاحتكار أرض الديانات السماوية الثلاث وتحويلها إلى أرض يهودية، بينما الأرض في جوهرها هي ملك لسكانها وأهلها، من مسيحيين ومسلمين ويهود.
الاستيطان الإسرائيلي الذي يمتد فوق الأراضي المحتلة في الضفة الغربية يؤكد أن إسرائيل تحضر لصراع طويل مع العرب، هدفه إحكام السيطرة على الأرض والاقتصاد والمحيط. والواضح في الوقت عينه أن إسرائيل دمرت آفاق حل متفق عليه بشأن القدس والدولة الفلسطينية? فسياسة الضم والتهجير والسيطرة لم تتوقف ليوم واحد. ولقد حسمت إسرائيل موقفها بخصوص الصراع مع العرب? وهي تستوطن الأرض وتتمدد لأنها ترى حروباً قادمة ودفاعات ضرورية في هذه الحروب تجاه الأردن وتجاه سورية وتجاه مصر ولبنان وتجاه العمق العربي والإسلامي الأوسع.
ان مقدرة إسرائيل على الاحتفاظ بالأرض التي احتلتها وصادرتها عام ??4? تطلبت طرد سكان فلسطين الأصليين وسرقة أراضيهم ومصادرتها كما تطلبت عام ??56 توجيه ضربة لمصر? وفي العام ??6? تطلب الأمر قيام إسرائيل باحتلال الضفة الغربية والقدس والجولان وسيناء? وتطلب بعد ??6? استيطان الضفة الغربية والقدس بجنون، وتطلب مزيداً من الحروب مع المحيط العربي? كما تطلب حصار غزة واضطهاد فلسطينيي ??4? الذين بقوا على الأرض في المدن التي احتلتها إسرائيل عام ??4?. باختصار لم ينجُ أحد من اضطهاد الصهيونية.
لقد أدى كل توسع إسرائيلي إلى توسع أكبر? وكل حرب إلى حرب أكثر تدميراً? وكل استيطان فتح الباب للمزيد، وكل مسمار يدق في القدس سيمهد لصراعات الغد. ولايزال الصراع في جوهره مستمراً طالما لم ينجح العرب في استعادة الوجه الحضاري والتاريخي والإنساني لفلسطين بصفتها أرض الديانات وينبوع التنوع. ولم يعد حل قضية فلسطين ممكناً بلا تحرير الإنسان العربي واليهودي من قيود الحركة الصهيونية وعنصريتها وشموليتها لصالح نظام سياسي يؤمن بالحقوق لكل الناس بغض النظر عن ديانتهم، وهذا بدوره سوف يجعل الاعتراف للفلسطينيين بحق العودة وبحق الحياة وبحق البناء وبحق التنقل والمساواة والعدالة حقاً أصيلاً لهم.
ستبقى قضية العودة قضية كبيرة في الواقع العربي والفلسطيني. فنصف سكان الضفة من اللاجئين من أراضي ???4? ونصف سكان غزة من اللاجئين? وهناك أسر مكونة من إخوة وأخوات أصبح كل منهم، بفضل سياسة التهجير? يعيش في جميع البلدان المحيطة بإسرائيل وفي العالم كله. ضحايا الصهيونية كثر? وقد يفهم كل منهم حق العودة بصورة مختلفة? بل قد يفهم بعضهم حق العودة بصفتها عودة إلى مكان في القرية والمدينة الأصل تجتمع حوله كل العائلة لفترات محددة.
لقد استقدمت إسرائيل مليون مهاجر روسي في التسعينيات، ادعى الكثيرون منهم أنهم يهود? وذلك لتسهيل مقدرتهم على ترك روسيا وكسب امتيازات جديدة? وقد تبين أن نسبة منهم من المسيحيين. تم كل هذا لأن إسرائيل تضطهد وتحتل وتتوسع للحفاظ على النقاء الديني الخرافي للدولة. ألم يكن بالإمكان استقدام مليون عربي من مخيمات اللجوء والمساهمة في حل المشكلة التي خلقتها إسرائيل بالأساس عبر الطرد والتطهير العرقي؟
لقد باغتت الثورات العربية أنظمتها، لكنها أيضاً فاجأت إسرائيل وجعلتها تتعامل مع قلق جديد لم يكن ضمن حساباتها. وعندما يكتسب العرب القدرة على ممارسة الحرية ويحققون كرامة وعدالة وحقوقاً، سيبتعدون عن تلك الحالة التي سادت الزمن العربي الرديء. في ظل الربيع العربي وبعده? سيعود الصراع العربي الإسرائيلي? بصفته التعبيرَ الأنقى عن العلاقة المختلة بين مجتمعات شرقية تعيش حالة تحرر وبحث عن الذات? وبين نظام استيطاني كئيب لايزال يحلم بإدامة الاستعمار والقدرة على الإملاء والإخضاع والاحتكار.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 3688 - الخميس 11 أكتوبر 2012م الموافق 25 ذي القعدة 1433هـ