حين يكون السلام في وعينا هو ألا نقاتل غيرنا! ولا نسحق أضعفنا! ولا نتكالب على من هو دوننا! فإنا بذلك نعترف ضمناً أننا سباع في غاب، نتبجح بالسلام حين نتوقف برهة عن الفتك ببعضنا. فليس ذلك هو كيان السلام بل فقط مجرد واحدة من نتائجه، فالسلام بمعناه الحقيقي والأصيل والشامل والمستمر. هو في صناعة الإنسان والمجتمع على أسس سليمة وقوية، تنتفي فيها القابلية لأن تنشأ شريعة الغاب وتنشر.
إن إيقاف الحروب وسفك الدماء ووَضْع حدٍّ للاعتداء والعنف والنزاع، هي عملية لن تتحصل بالمؤتمرات والقمم والاتفاقيات ووسائل الضغط المختلفة، وإن كانت تلك ضرورية وأساسية في هذا المنحى، إلا أنها لن توفر سلاماً يكون كاملاً ودائماً وثابتاً وراسخاً، بل ضمانة السلام هي في توفير جملة مقومات أساسية لا يمكن للبشر أن يمضوا في طريق سعادتهم وسلامهم من دونها.
وقد يثار إشكال هنا يشي بأن الحاجة للسلام هي نتيجة وجود حرب. بينما الحقيقة أن افتقاد السلام هو الباعث على الحرب وليس وجود الحرب هو الباعث على السلام، فالسلام حاجة أساسية للفرد تعادل حاجاته الأساسية الأخرى. ومن زاوية أخرى وفي السياق ذاته، هناك من يعتقد أن القوة لازمة لحماية السلام وحفظ استقراره، وهذا صحيح من جانب، لكن القوة تأتي كآخر وسيلة وليس أول وسيلة، فلابد أن يسبق استخدامها تفعيل كل مقومات السلام الأخرى، والتي أبرزها التنمية والمعرفة والقيم، وهي أبجديات أساسية في صناعة كل حضارة إنسانية تتمتع بالسعادة والسلام.
فعجلة التنمية التي تحفظ إنساناً آمناً في قوته متمتعاً بحياة كريمة لا يخاف فيها الحاجة، ومجتمعاً متقدماً في طموحه حين يتعدى من مجرد إطعام أفراده إلى صناعة مستقبل متطور في العلوم والفنون والاختراعات وغيره. يكون هذا هو بناء أصيل وراسخ للسلام المستدام الذي تنتفي معه الكثير من دواعي الحروب والنزاعات والعنف.
وكذلك من زاوية موازية يكون مقوم المعرفة، فبالإضافة إلى أنها هي ما يسند حراك التنمية ويعزز تقدم المجتمع ويؤهل أفراداً قادرين على صناعة مستقبلهم بجدارة، فإنها كذلك «المعرفة» هي الحصن المنيع الذي يحمي الإنسان لأن لا ينجرف في مستنقعات الجهالة، بكل ما تحمل هذه المفردة من مضامين تعاكس السلام وتناقضه.
فمعرفتنا ووعينا بدورنا ورسالتنا الإنسانية في هذه الحياة مهما تفاوتت مواقعنا، ومعرفتنا لأهمية احترام الإنسان وحقوقه أياً كانت عقائده وآراؤه أو عرقه وانتماؤه، ومحورية ذلك الاحترام في صناعة أي مجتمع سعيد ومتآلف، وكذلك إدراكنا لواقعنا وكيف نواجه فيه تحدياتنا المختلفة، ذلك وأشباهه هو درع معرفي حصين يحمينا من أن نستغفل وننزلق في أتون كل ما يناقض السلام في مجتمعنا والعالم.
وأخيراً، تأتي القيم لتتوج كل ذلك وغيره، فالتنمية والمعرفة وأي مقوم آخر ناهض للسلام من دون قيم إنسانية تتخلله وتحفظه، لكي لا ينحرف عن مساره في تطوير الإنسان والمجتمع ويصبح عقبة في طريق السلام بدل أن يكون حافزاً له، هو أمر مهم جداً لصناعة سلام حقيقي بمختلف أشكاله وتجلياته، ابتداء من ذلك الذي هو داخل الإنسان وانتهاء بالسلام العالمي والكوني.
وفي هذا السياق، لنا أسوة حسنة فيما رسخه رسول الإنسانية محمد (ص)، من مرتكزات أساسية للسلام المجتمعي في مدينته المباركة الطيبة. فبالإضافة للقيم التي بقي يضرب على وترها طوال دعوته وحياته، نراه اهتم بشكل لافت بمقومي التنمية والمعرفة، فنرى التنمية - بمفهومها الواسع - متجلية في بنود وثيقة المدينة، وهي وثيقة مواطنة وحقوق وحريات وتعايش لمختلف الطوائف. ومن زاوية أخرى نرى أهمية المعرفة ومركزيتها في دعوته، إذ لم يألُ جهداً في ترسيخ هذا المفهوم في مجتمع المدينة، وقد جعل مسجده ساحة لتلقي العلوم والمعارف ولإعمال الفكر بقدر ما كان للصلاة والعبادة، بل وجعل طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
وأخيراً نقول... إن تحقيق السلام بهذا المعنى والوصول لهذا البعد الإنساني في ترسيخه وتأصيله، هو فريضة واجبة اليوم على كل فرد وعلى كل جهة، الأفراد والأسر والمؤسسات والحكومات. فهنا يأتي اختبار الصدقية الأكبر في طلب السلام، فهل هو تغني وادعاء فارغ من دون بذل ما يتطلبه من جهد، أم هو طريق أردناه بإخلاص ونحن على استعداد كامل لأن نبذل ونتحمل المشقة والتضحيات في سبيل السير فيه وتحصيل السلام؟... ذلك هو سؤال مطروح على الجميع يطلب الإجابة العملية... فهل من مجيب!
إقرأ أيضا لـ "نعيمة رجب"العدد 3680 - الأربعاء 03 أكتوبر 2012م الموافق 17 ذي القعدة 1433هـ