العدد 3671 - الإثنين 24 سبتمبر 2012م الموافق 08 ذي القعدة 1433هـ

الموازنة بين حرفية نص القانون وروحه مطلبٌ لأنسنة القانون

نفيسة دعبل comments [at] alwasatnews.com

محامية بحرينية

هل العدل في القوانين أم فيمن يطبق تلك القوانين؟ وهل العدل في تطبيق نص القانون أو في تطبيق روحه؟ وما الفرق بين نص القانون وروحه؟ جميع الأمم تضع القوانين والدساتير على أساس تحقيق العدل والمساواة بين الناس، وتدار المناقشات ويؤتى بكبار رجال القانون والتشريع، وتعدل مواد تلك القوانين، وتحذف كلمة وتضاف أخرى إلى أن يجاز ذلك القانون أو الدستور، ورغم كل ذلك نجد الجور والظلم والتذمر. وتمتلئ السجون وتتكدس القضايا. وهذا دليل واضح أن العدالة ليست في نصوص القانون، وإنما فيمن يطبق القانون ويفسره ويتفطن للمقاصد العليا منه، فنصوص القانون ليست غاية وإنما هي السبيل للوصول إلى ما يحفظ حقوق الأفراد والمجتمع ويصون الإنسانية، وإذا ما جمع من ملك زمام التطبيق بين النص وبين الإنسانية والمبادئ العليا وصل إلى روح القانون، فهناك قضاة أصدروا أحكامهم بالإعدام أو السجن المؤبد على أبرياء ظناً منهم أنهم طبقوا القانون، إلا أن واقع الأمر يقول بأنهم قد أغفلوا روح القانون وعدالة التطبيق وأنسنة القانون، والأمثلة على ذلك كثيرة وإن كانت مغيبة إلى حد كبير.

ونستشهد بحادثة وقعت أيام الرسول (ص) تندرج تحت نطاق ما سبق بيانه، وهي الآتي ذكرها: جاءت امرأة زانية وكانت حاملاً إلى رسول الله (ص) لتطلب منه أن يقيم عليها الحد، كان القانون يلزم بتنفيذ عقوبة الرجم حتى الموت، ولكن الرسول (ص) تعامل مع تلك المرأة بروح القانون وبالرحمة والإنسانية وطلب منها أن تكمل حملها وعادت المرأة من جديد والطفل بين ذراعيها وبقيت مصرة على إقامة الحد عليها لكن الرسول (ص) طلب منها أن ترضع الطفل وتعتني به لمدة عامين وكان يأمل بأن لا تعود ثانية، لكنها عادت من جديد وأصرت وأقيم عليها الحد، هذه هي روح القانون، فروح القانون قبل القانون وروح الشريعة قبل الشريعة والرحمة أساس كل شيء، فقد أجّل رسولنا الكريم (ص) تنفيذ عقوبة المرأة الزانية لوجود جانب إنساني ومصلحة أولى بالرعاية من التنفيذ بالوقت الذي أذنبت فيه تلك المرأة ولم تكن مجرد مشتبه فيها.

كما أن بإحدى القضايا التي حدثت بالمحاكم الفرنسية وحسب رواية أحد القضاة شخصياً، وعندما كاد ينطق بالعقوبة ضد المتهم صرخت امرأة عجوز (الأم التي كانت متواجده بالجلسة) وهي تقول إنه ولدي الوحيد الذي يعيلني ويرعاني... فما كان من القاضي حينها إلا أن خفف العقوبة وقال من أجل صراخ أمك فقط... أما في وقتنا الحاضر وفي بلداننا العربية تحديداً فغياب روح القانون من جانب، والتعسف في تفسير النص القانوني من جانب آخر يجعل ثقة الناس بالقانون تنهار، العدالة تتلاشى، مصالح الأفراد وحقوق الإنسان تهدر، والإنسانية تتهاوى.

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في الواقع العملي التطبيقي منها ما يلي:

- حق استعمال القوة بالنسبة لمأموري الضبط القضائي: يحق لمأموري الضبط القضائي استعمال القوة ليتمكنوا من تنفيذ أمر القبض على المتهمين وذلك ما أقره القانون، ولكن الحقيقة الأخرى التي لا يجوز تجاوزها هو عدم الأخذ بإطلاق إجازة هذا الحق، فلا يعقل مثلاً أن عدداً من رجال الشرطة يمارسون حقهم في استخدام القوة اللازمة لتقييد متهم وشل حركته وتنفيذ قرار النيابة العامة بالقبض عليه، وتجد بأن المتهم لم يسلم جزءاً من أعضاء جسمه من الضرب والتنكيل بما فيها فمه وأسنانه وعيناه واستخدام وسائل العنف كالرصاص الحي وما شابه، فما علاقة ذلك كله بشل مقاومة المتهم بما يكفي لنقله فقط لمركز الشرطة؟!

ولكن المضحك المبكي في الموضوع أن عبارة (تم استخدام القوة اللازمة لشل حركة المتهم بما يكفي لنقله لمركز الشرطة) هي الإفادة المعهودة التي ترددها جهة الاستدلال المكلفة في النيابة العامة أو أمام المحكمة والتي يعتد بها في كثير من الأحيان لعدم مخالفتها للقانون، إلا أننا بالتوغل في روح القانون لتلك المسألة، سنجد أمور عدة من بينها وجود حدود وضوابط لهذا الحق لا يمكن تجاوزها منها عدم استخدام العنف ووسائله بشكل مطلق وممارسة هذا الحق بما يكفي لتقييد حريته فقط وبأضيق الظروف وبعد حدوث مقاومة لتنفيذ الأمر من المتهم أو المشتبه فيه، عدم جواز الاعتداء على أي إنسان حتى وإن كان مذنباً، فكيف وأن يكون مجرد مشتبه فيه! قد يكون المتهم مريضاً أو مصاباً بمرض لا يصح معه استخدام أي وسيلة أو شكل من أشكال العنف الذي قد يساهم في إنهاء حياته أو تعثرها بما لا يحمد عقباه.

خلاصة القول في هذا الإطار نرى بأن يتم ما يلي أولاً: محاسبة كل من يتجاوز هذا الحق أو يسمح أو يتجاهل أمر تجاوزه، ثانياً: تدريب وتهيئة القائمين بممارسة هذا الحق على حدوده وضوابطه، ثالثاً: قيام القضاء بالبحث بكل حالة وظروفها على حدة والابتعاد عن مسايرة هذا النص المتعلق بالحق المذكور والالتفات عن مسألة روح القانون وأنسنته.

- الإفراج: منح قانون الإجراءات الجنائية السلطة التقديرية للنيابة العامة أو لقاضي التجديد بمرحلة التحقيق، ولقاضي الموضوع بمرحلة المحاكمة الإفراج عن المتهمين بأي وقت ودون تسبيب، صحيح أن قانون الإجراءات الجنائية البحريني لم يفرد نصاً وجوبيا للإفراج الصحي خلافاً للفرنسي والمصري، وصحيح أن لجهة التحقيق وللقضاة أيهما مختص السلطة التقديرية المطلقة بالإفراج ودون تسبيب، إلا أننا نقول بأن الظروف التي تستصحب كل متهم على حدة هي ما يجب الأخذ به تماشياً مع روح القانون، ففي بعض الحالات المرضية الشديدة للمتهمين التي قد تتفاقم بالتواجد في المحبس والتي تتجاوزها بعض جهات التحقيق أو القضاة بالسلطة التقديرية المملوكة إليهم بعدم الاعتداد بالإفراج عنهم وعدم الاعتداد بظروف المتهم الصحية التي قد تتفاقم بتواجده، وذلك والكثير من الحالات التي قد يصنفها روح القانون ضمن الحالات الوجوبية للإفراج، مما يتوارد إلى مسامعنا سواءً أكان من المتهمين أنفسهم أو من الجهات الحقوقية.

وعليه نتمنى من المختصين بقرارات الإفراج من العدم بذل جهد أكبر في دراسة معطيات كل حالة أو ظرف على حدة بالنسبة لكل متهم.

- الحبس الاحتياطي بالقضايا البسيطة: نصت المادة 142 من قانون الإجراءات الجنائية على شروط تحقق الحبس الاحتياطي (إذا تبين بعد استجواب المتهم أو في حالة هربه أن الدلائل كافية وكانت الواقعة معاقباً عليها بالحبس لمدة تزيد على الثلاثة أشهر جاز لعضو النيابة أن يصدر أمراً بحبس المتهم احتياطياً...) وبينت المادة 148 من القانون ذاته ضرورة إعلان المحكمة المختصة للمتهم في حالة الجنح إذا تجاوزت مدة الحبس الاحتياطي ستة أشهر.

وفي الواقع العملي نجد الكثير من القضايا البسيطة التي تكون فيها العقوبة شهراً أو شهرين أو غرامة، بينما تكون فيها مدة الحبس الاحتياطي ثلاثة شهور أو أربعة.

صحيح أن النيابة العامة والقضاء ينظران لنص العقوبة فيجدانه داخلاً ضمن شروط تحقق الحبس الاحتياطي، ولكن من غير الإنساني أو العادل أن تكون ظروف القضية وحالة المتهم تقتضي الحبس شهراً كعقوبة بعد البحث من قبل القضاء في الأدلة والوقائع والظروف مثلاً، بينما يحبس احتياطياً على ذمة القضية نفسها 4 شهور، من هنا تظهر حاجتنا لترسيخ مسألة النظر لما هو أعمق من النص وسلطة التطبيق التقديرية وصولاً لروح القانون.

فلو بحثت النيابة المختصة بشكل مستفيض وتجاوزت مسألة التطبيق الحرفي للنص لأمرت بتعجيل التصرف في القضية أما بالأمر بألا وجه لإقامة أو بالإحالة للمحكمة المختصة، مراعاة لحقوق المتهم في الحرية الشخصية.

لذلك نأمل أن تتم الرقابة بشكل أكبر على جهات التحقيق لنتجاوز تلك المسألة وإلزامهم بتسبيب تمديد الحبس الاحتياطي ومنح المتهم فرصته في الاستئناف لقرار الحبس الاحتياطي ومناقشة أسبابه وتطبيقها على ظروفه.

- الاختبار القضائي: هو أحد التدابير التي أقرها قانون الأحداث، والتي تعتبر الأشد من التأنيب والتسليم لولي الأمر، حيث يستتبع الأمر بها قيام المركز الاجتماعي بالتنسيق مع المدرسة التي يتواجد بها الحدث بعمل تقرير يرسل للقاضي من فترة لفترة حتى تنتنهي مدة الاختبار كما للقاضي بأي وقت يشاء الأمر بالتحفظ عليه، ولخطورة هذا التدبير خصوصاً مع الحدث الذي لا يتجاوز عمره 14 سنة يستلزم على القضاء عند تقريره لهذا التدبير، النظر لاعتبارات معينة منها وجود خطورة إجرامية لدى الحدث يستعصي معها بقاؤه دون هذا الإجراء، ولن تثبت الخطورة الإجرامية دون أدنى شك إلا بوجود جرائم مماثلة أو غير مماثلة بصحيفة أسبقياته وما لا فلا، زد على ذلك فإن أمر تنفيذ هذا التدبير فيمن يكون بهذا السن له تأثير كبير جداً على السلامة النفسية والاجتماعية لدى الحدث، فضلاً عن أثره الكبير في التحصيل الأكاديمي، وبتتبع تلك الآثار قد نهوي بالحدث بقعر الجريمة.

وعليه نتمنى أن يتم توخي الحذر بقدر الإمكان عند اتخاذ هذا التدبير، فنص القانون ليس الغاية وإنما هو وسيلة لتطبيق مقصد أسمى وهو صون المجتمع من الجريمة، التي لا يتم تفعليها لا بعدالة التطبيق والنظر لجميع معطيات القضية وسن المتهم.

وهناك الكثير من الأمثلة الواقعية التي لا يسعنا المقام لذكرها، والتي نتمنى أن يتم التعامل فيها بإنسانية نص القانون بهدف مراعاة حقوق الأفراد في المجتمع.

وأخيراً نأمل ألا يتم التعامل مع القوانين كنصوص جامدة لا حياة فيها، فالنصوص الجامدة كالآلة الصماء، بل تطبيق القانون بالنظر لظروف كل حالة على حدة، وتفسيره بما يتناسب مع سلامة التطبيق والإنسانية وحقوق الأفراد أخذاً في الاعتبار بروح القوانين التي تتطلب مكنات فيمن يولي أمر البت في تلك الأمور ليصل لعدالة التطبيق.

إقرأ أيضا لـ "نفيسة دعبل"

العدد 3671 - الإثنين 24 سبتمبر 2012م الموافق 08 ذي القعدة 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 7:18 ص

      وسيادة القانون

      سيادة القانون ليست قانون لكنها سيادة لا ريادة فيها. وهذا لا يحتاج تسفير ولا تفسير. المشكلة في من لا يعرف قواعد المرور فيصعب عليه استخدام الطريق وتجاوز أبسط القواعد المرورية التي تؤتيه وتؤذي الآخرين. فهل القانون يحتاج الى شرطي المرور أم رجل المرور يحتاج الى معرفة القانون أولا أنه قانون لا نص فيه ولا تفسير؟

    • زائر 2 | 6:56 ص

      نعم الحق معك فسدّة القضاء هي مربط الفرس وعليها المعوّل لذلك قال الرسول الاكرم

      (من ولّي امر القضاء فقد ذبح من غير سكّين) هذا ادراك للرسول الاكرم لما ينطوي عليه هذا المنصب من خطورة كبيرة جدا والقوانين مهما تبلغ في تشريعها فالعمدة والمعتمد على القاضي الذي يطبقها مع الجهاز التنفيذي الذي يخضع له ولنا في ذلك خير مثال في البحرين فمعظم نصوص القوانين هي قوانين ذات مستوى راق ولكن في التطبق يسقط ذلك المستوى الى ان يصبح وجودها من عدمه سواء.

    • زائر 1 | 12:15 ص

      مقال نفيس من نفس نفيسة

      احتراماتي وتقديري. وأرشحك لعضوية أو رئاسة اللجنة القانونية البرلمانية في مجلس نواب يتوافق مع مواصفات وثيقة المنامة

اقرأ ايضاً