يتسم الإنسان بثلاث سمات متناقضة منها أنه أناني يفكر بذاته، ومنها أنه خبيث يعمل على إثارة الآخرين وتحطيمهم، ومنها إنسان متدين ومن ثم يفكر تفكيراً جماعياً. وهذه السمات في جانب من كل منها أمور سلبية، وأخرى إيجابية فالتفكير الفردي الأناني هو ما يطلق عليه الاقتصاديون عامل المنفعة وهو أساس النشاط الاقتصادي، ولكنه إذا تخطى الحدود المعقولة يتحول لما يسمى بالمنافسة الحادة أو بالانجليزية Cut-Throat Competition تؤدي إلى الاحتكار وتدمير المنافسين ومن ثم الخروج عن القواعد الرأسمالية لعلم الاقتصاد.
أما خبث الإنسان وذكاؤه ففي حده الأدنى مقبول بل وربما ضروري، حتى لا يقع في السذاجة الكاملة، ويتصور أن البشر كلهم أتقياء طائعون محببون لبعضهم بعضاً، وهذه السذاجة مدمرة له، أما إذا زاد الخبث والدهاء فإننا نقع في دائرة التآمر المدمر. أما الطابع الجماعي وأحياناً يقال الجمعي، للإنسان فهو في جانبه الإيجابي يعبر عن تماسك المجتمع وعن روحه الوطنية ويمثل قوة دافعة للعمل الوطني، أما إذا زاد عن الحد فيؤدي إلى تدمير المجتمع وخاصة إذا كان العمل الجمعي طبقياً أو دينياً أو طائفياً، إذ قد يتصارع أصحاب الأديان والعقائد والطوائف، كما تتصارع الطبقات، ويجد المجتمع نفسه أمام نظام ديني لاهوتي أو نظام طبقي ديكتاتوري. ولهذا قال الحكماء قديماً إن الفضيلة هي وسط بين متطرفين، كما قال المفكرون الثوريون بضرورة تجنب المراهقة الفكرية والسلوكية تجاه اليمين المتشدد أو اليسار المتطرف. أما بالنسبة إلى علاقة المجتمع بالمجتمعات الأخرى، فإن التطرف أو التشدد الديني أو الطبقي أو القومي يؤدي إلى صراع طبقات على مستوى دولي، كما أن الخبث والمكر الدولي يؤدي لتأمر الشعوب والدول، ومن ثم إلى صراع دولي، كما حدث في مؤامرة سايكس بيكو العام 1916 لتقسيم المنطقة العربية، ومؤامرة العدوان الثلاثي على مصر العام 1956. ولكن كل هذه المؤامرات هي إحدى حقائق السياسة الدولية وإن اختلفت التسميات لتحمل اسماً جميلاً مثل تصدير الثورة أو الاقتداء بالنموذج أو نشر الحضارة ونشر الديمقراطية وحقوق الإنسان أو التبشير الديني أو الطائفي، وأحياناً تحمل اسم نظرية من نظريات العلاقات الدولية مثل نظرية حافة الهاوية، ونظرية الردع التقليدي أو النووي والنظرية الاستباقية، أو نظرية الفوضى الخلافة.
وفي تقديري كمحلل للأبعاد الاستراتيجية للقضايا أجد في الفيلم الأميركي الذي تعرض لحياة النبي محمد (ص بعنوان «براءة المسلمين» ثلاثة إبعاد بالغة الخطورة:
أولها: البعد الشكلي القانوني المرتبط بحرية التعبير والإبداع: وهذا ينطبق عليه مقولة حق يقصد بها باطلاً فالدول الأوروبية والأميركية التي تروج لهذا المفهوم، المسمى ليبرالي في الثقافة أو السياسة عندما تمس مصالحها المباشرة تتنكر لهذا المفهوم فحقوق الإنسان التي ترددها أميركا نسيتها الإدارات الأميركية المتعاقبة عندما اعتقلت الكثيرين ووضعتهم في معتقل معسكر غوانتنامو بلا اتهام وبلا محاكمة ولعدة سنوات، والدنمارك رفضت التعاون مع مصرفي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وكذلك كندا والولايات المتحدة وبريطانيا. وقد آوت تلك الدول وغيرها الكثير من المتشددين والإرهابيين المصريين ومنحت لبعضهم جنسيتها ورفضت تسليمهم بدعوى حقوق الإنسان وحرية التعبير، ولكن عندما قررت الولايات المتحدة اعتقال ومحاكمة الشيخ عمر عبدالرحمن استشهدت بخطبه، والتحريض الذي قام به وأنه شجع الإرهابيين وكذلك الأمر عندما اعتقلت بريطانيا بعض المصريين أو الأردنيين المتطرفين من الدعاة بتهمة التحريض وإثارة الكراهية.
وثانيها البعد الديني التآمري: وهو مرتبط بنظرية صراع الأديان والحضارات وصدامها والذي عبر عنه كثير من المفكرين الأميركيين أمثال صاموئيل هنتنغتون وقام بتطبيقه عملياً القس تيري جونز الذي تخصص في كراهية الإسلام والمسلمين، وخاصة النبي محمد (ص)، وحرص بتفانٍ على السعي لإثارة الفتن والقلاقل، كذلك بعض أقباط المهجر وهم قلة معروفة بالأسماء لدى المعنيين في مصر، وقد تخصصوا في التحريض ضد مصر كدولة، والمطالبة بوقف المعونة الأميركية لها، وإثارة الفتن ضد المسلمين بدعوى أن الأقباط مضطهدون في مصر. وحقيقة الأمر هو أن الأقباط وكذلك المسلمين في مصر ربما كانوا مضطهدين في ظل نظام حكم الرئيس السابق حسني مبارك ونظامه القمعي، كما كان يحدث مع العراقيين في عهد صدام حسين والليبيين تحت حكم القذافي ومع غيرهم من الشعوب التي تخصص قادتها في القمع والتعذيب والديكتاتورية وسلب أموال الشعوب.
أما الحقيقة الثانية فهي أن الأقباط كمكون رئيس من مكونات المجتمع المصري ليسوا مضطهدين فلهم حقوق متساوية مثل المسلمين مع فوارق في التطبيق وهذه مشكلة مجتمعية أكثر منها قانونية أو دستورية.
أما الحقيقة الثالثة فهي ترتبط بصعود تيار الإسلام السياسي المتشدد والمتطرف في مصر وغيرها من الدول العربية وخاصة وصول عناصر من هذا التيار للسلطة، واتجاهاته نحو ما يسميه الإصلاح في شتى المجالات، وهو إصلاح ينحو نحو الشمولية للسيطرة على المجتمع وإقصاء الآخر المختلف أو تهميشه وتطوير النظم القانونية والإدارية ومؤسسات الدولة، بما يضمن له السيطرة الأبدية وفقاً لرؤيته الخاصة، التي تختلف في جوانب كثيرة منها مع الفكر السياسي والإداري الحديث، ومع مفهوم الوطنية والمواطنة الموحدة، وتنظر إلى ما وراء الحدود أكثر مما تنظر داخل الحدود، وتنظر إلى داخل فكر ومصلحة الحزب أو الجماعة الدينية بأكثر مما ننظر إلى فكر ومصالح المجتمع ككل، ومن هنا يبدأ التعارض وأخشى أن أقول يبدأ الصدام. وهذا الصدام يرتبط بما اسمية الفكر التآمري داخل المجتمع وبين الدول والمجتمعات وهنا أشير إلى عدد من الملاحظات النابعة من تطور المجتمعات الأوروبية والولايات المتحدة وعلاقاتها بالدول العربية والإسلامية.
الأولى: تأثير الصدام التاريخي بين القوى الأوروبية الاستعمارية باسم المسيحية في العصور الوسطى، وبين الحضارة والقوة الإسلامية، ومن هنا برزت الحروب الصليبية كتعبير عن صدام ديني وثقافي كما يبرز الاستعمار كتعبير عن صدام حضاري ولكن الحقيقة أن كلاهما يعبر عن تصارع مصالح اقتصادية.
الثانية: تأثير النزعة العقائدية بعد بروز الاستقطاب الدولي بين الغرب والاتحاد السوفياتي، وسعى كلا الطرفين لاستغلال المسلمين والعرب والأفارقة كوقود وأدوات لهذا الصراع. ولذلك ظهر في الستينيات من القرن الماضي ما عرف سياسياً، وإن لم يتبلور قانونياً ومؤسسياً، باسم الحلف الإسلامي، ثم ظهرت الحركات الجهادية الإسلامية الممولة والمدربة من المخابرات الأميركية للنضال ضد الاتحاد السوفياتي الكافر في أفغانستان، ولما قضت هذه المخابرات الأميركية هدفها بطرد الاتحاد السوفياتي من تلك الدولة، ثم تدميره من الداخل والخارج أيضاً، تركت الولايات المتحدة هؤلاء المجاهدين الغافلين في العراء، فحقدوا عليها وعلى دولهم وتوجهوا للتخريب لدى الطرفيين في عمليات انتقامية غير عقلانية عادت بالمردود السلبي على المسلمين بأكثر مما أضرت الغرب أو الولايات المتحدة ولو أخذنا بنظرية المؤامرة فيمكن القول إن هؤلاء المجاهدين حسنى النية والطوية، ولكنهم تميزوا بسذاجة سياسية، وقشور وضحالة في الفكر الديني السليم، وفي فهم العلاقات الدولية المعاصرة، تصوروا أنفسهم صحابة رسول الله وأنهم يعاهدونه لنشر الإسلام أو الدفاع عنه، ونسوا الفارق الكبير بينهم وبين عصر الرسول، وبينهم وبين قوة الرسول المؤيدة من الله سبحانه وتعالى.
ولذلك لا عجب ولا غرابة أن دولة أفغانستان التي تميزت بالطابع القبلي العنيف تقليدياً، ولم يستطع الاستعمار البريطاني أن يجد ركيزة فيها، وهو ما حدث في اليمن نفسه أصبحت كلتاهما مأوى للإرهاب و «للقاعدة» وللتطرف، وأول تدمير هو ذات الدولة وثاني تدمير هو الدول الإسلامية، وثالث الإضرار صورة الإسلام، وأقل الأضرار هو الغرب أو الشرق الكفار إذا جاز استعمال مصطلحات هؤلاء المجاهدين.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3667 - الخميس 20 سبتمبر 2012م الموافق 04 ذي القعدة 1433هـ