يجود علينا الخليج العربي بقامات نضالية لا تنحني، وأنجم في سماء التضحيات لا تخفت ولا تختفي، فوهجها يضيء الدروب، وصيتها يُرتل على امتداد الدهر أناشيد الحرية والكرامة والعدالة. نعم، إنهم المناضلون الذين اختاروا شقاء الحياة وسلكوا منحنيات الحتف والموت لأجل الآخرين، فأي نبل أكثر من الفداء؟ وأي قربان أقدس من التضحية؟
إن هذه الصفات منفردة أو مجتمعة هي صفات المناضل الثوري، الذي لا يحدّد لنضاله سقفاً، ولا يقرر لتاريخه نهاية، وهو ما كان عليه مناضلنا العربي البحريني عبدالرحمن النعيمي أو سعيد سيف، الذي لم يختزل نضاله في حدود جغرافية مرسومة، ولم يقصر دوره على أناس بعينهم، بل وهب ذاته وبذل جهده للآخرين حتى ينالوا حقوقهم كاملة، ومن هؤلاء الناس نحن العمانيون، فلتسمح لي روحه الطاهرة أن أتحدث عنه هنا، على رغم فارق العُمر والبون الشاسع للتجربة، فحينما أتيت إلى الحياة في ظفار العام 1979، كان سعيد سيف ورفاقه قد خرجوا من الجنوب العربي إلى المنافي القسرية والشتات، مع الحنين الأبدي إلى الأوطان التي تتطلع إليهم وتهفو إلى احتضانهم، لأن الأوطان دائماً تعشق أبناءها المغتربين أكثر من أبنائها الذين يسكنوها.
لن أخوض في الحديث عن تاريخ النعيمي النضالي الحافل بنكران الذات والمتعالي على الأنا والساطع بالقيم الإنسانية، لا لشيء إلا أنني لا أهتم بسرد التاريخ زمانياً ومكانياً، بل أتجاوز ذلك إلى ما يعنيه النضال الفردي والشعبي معاً في إيجاد مظلة أكبر وأوسع من الإيدولوجيا الضيقة، وفي توفير بيئة حاضنة لكل الأطياف ومختلف التيارات، تلك المظلة هي الوطن بمفهومه الواسع العربي الكبير وبمعناه القطري البحريني أو العماني أو غيره، وهو ما تحتاجه بلداننا العربية في الوقت الراهن نتيجة لحملات الاصطفاف الطائفي المسعورة، والشحن المذهبي المتواصل، وما قد تنتجه هذه اللغة البغيضة الوافدة على أوطاننا من شقّ لحمة المجتمعات وتمزيق خارطة الوطن الواحد وتقسيم الأحياء إلى «كانتونات» ذات صبغة معينة، وهذا ما يخطط له أعداء الأمة وما ينفذه دون أن يعلم بعضٌ من رجال المذاهب ومن يرسم السياسات لبعض الأنظمة.
وهذا الأمر الذي رفضه النعيمي ومن معه من المناضلين الذين حدّدوا بوصلة العمل الوطني نحو الحرية والعدالة الاجتماعية وانتزاع الحقوق لكل الناس، وهذا ما يمكن أن تُبنى عليه أي مشاريع وطنية مستقبلية على المستوى الفردي أو الجماعي المستقلة أو المنضوية تحت مؤسسات حزبية أو حركية. بل أرى أن الخط الذي انتهجه النعيمي يمكن أن يكون أرضية لعلاج المشكلات السياسية التي تعاني منها العديد من الدول العربية، كما يمكن أن يكون الترياق الأخير لمكافحة آفة الطائفية والتخندق المذهبي، والذي يجري على مسمع ومرأى من الأنظمة العربية والمرجعيات الدينية وشيوخ العلم والمفتين، الذي صاروا يفرقون أكثر مما يجمعون ويحرضون أكثر مما يعظون. حتى الأنظمة نفسها لم تحرك ساكناً تجاه الخطاب الطائفي البغيض، بل وتباركه من حين لآخر، لكي تخلق مشكلات داخلية تنسي الشعوب مطالبها وحقوقها في المشاركة السياسية وفي التوزيع العادل للثروات، التي هيمنت عليها النخب الحاكمة والطفيليات الملتصقة بالأجهزة، التي لا تخدم الوطن بقدر ما تحافظ على مكانتها الاجتماعية والاقتصادية.
ومن هنا نطالب الأنظمة العربية وعلى رأسها الأنظمة الخليجية ودولة إيران المجاورة أن يتبنوا قانون معاداة الأديان وتجريم كل ما من شأنه أن يسئ بالقول أو بالفعل إلى المذاهب الإسلامية والطوائف الأخرى التي تعيش في عالمنا العربي والإسلامي. وعلى هذه المجتمعات أن تربّي الأجيال القادمة على مفهوم المواطنة، وعلى العمل، من الفرد إلى الأسرة إلى بقية المؤسسات الاجتماعية والثقافية المنوط بها دور التربية والتثقيف.
وكنا ننتظر من مؤتمر القمة الإسلامية الذي عقد مؤخراً في مكة المكرمة أن يخرج بميثاقٍ يجرّم التحريض الطائفي بكل أشكاله، وإخماد الفتن بمختلف أنواعها وألوانها، ولكن لم تتم الإشارة إلى ذلك، لأن بعض الأطراف المتواجدة في المؤتمر متطوّرة في التأجيج الطائفي، وفي استخدام لغة المذاهب لتحقيق أهداف سياسية دون أي اعتبار لروح الدين الإسلامي العظيم.
رحم الله عبدالرحمن النعيمي الذي ضحّى من أجل القضية التي آمن بها وعمل لها كل السنوات التي عاشها في البحرين وظفار وسورية، ولم يقبل أن يبع نضاله ولم يتنازل عن فكرة الاستقلال والحرية والكرامة، القضية التي تحفظ للإنسان كرامته وتمنحه حقوقه الكاملة المشروعة.
الرحمة والمغفرة والمجد والخلود لك يا أبا الأمل الخالد، أما رفاقه ورفيقاته في درب النضال فلهم كل التحايا والدعوات لهم بالصحة والعافية والعمر المديد، وعلى الأجيال أن تتسلم راية النضال لأجل أبنائها وأوطانها وأمتها العربية، حتى تستكمل مسيرة النهضة العربية وحتى تتحرر الأراضي الفلسطينية المحتلة، فلسطين التي كانت حجر الزاوية لدى (أبي أمل) ورفاقه في التنظيم السري وفي الكفاح المسلح، والرحمة لشهداء الأمة العربية، والحرية للمعتقلين في السجون الصهيونية.
إقرأ أيضا لـ "محمد الشحري"العدد 3660 - الخميس 13 سبتمبر 2012م الموافق 26 شوال 1433هـ
أبا أمل ونعم الرجال ..!!
شكرآ كاتبنا محمد علي سردك وكلامك في بسط شخصيه المناضل الكبير المرحوم النعيمي فقد كافح الرجل طوووال حياته من أجل قضيه هي مستمره علي نهجه الي يومنا هذا , النعيمي لك ذكرى لا تنسي فأنت بيننا الي الأبد , الي جناه الخلد