العدد 366 - السبت 06 سبتمبر 2003م الموافق 10 رجب 1424هـ

ممارسات وحدوية... وأخرى طائفية!

سلمان عبدالحسين comments [at] alwasatnews.com

كاتب

آفتان خطيرتان ابتليت بهما مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة: التشتت الفكري، الذي ترك آثارا سلبية خطيرة على وحدة الصف الإسلامي. والوعي الديني المنقوص، الذي ساهم بفعالية في تكريس التطرف المذهبي والممارسات الطائفية.

كان بالإمكان أن تبقى ظاهرة التنوع المذهبي في إطارها التاريخي والفكري المقبول لدى عموم المسلمين، بحيث لا تؤدي إلى تمزق المجتمعات الإسلامية وبذر الأحقاد والضغائن، لولا أن ممارسات كثيرين من المسلمين - بمن فيهم أبناء بعض التيارات الإسلامية - تساهم في تقوية ظاهرة الانتماء الطائفي على حساب الانتماء إلى الدين الإسلامي العظيم الذي بإمكانه أن يستوعب (تاريخيّا) الزمان كله، و(جغرافيّا) المكان كله!

في مقابل هذه السلبية الخطيرة، تبرز ممارسات وحدوية تبعث الأمل والتفاؤل في النفوس، أبطالها أناس مخلصون، تتوافق أفعالهم مع أقوالهم. فالتصدي لظاهرة التناحر المذهبي، ومحاولة توحيد الصفوف لمنازلة الأعداء المتربصين، يستلزم التسلح بصفات لازمة، منها التحلي بالصدق والإخلاص، والنفس السوية، والإحساس بالمسئولية. ومنها الإلمام بفقه الاختلاف، والتعرف على نقاط الالتقاء والافتراق بين الطرفين. ومنها فقه استخدام التاريخ ليكون عامل توحيد لا تمزيق!

عـقـدة التـاريخ

من الممارسات الطائفية التي نطلع عليها من حين إلى آخر، الاستشهاد بوقائع تاريخية، واستيراد حوادث من الماضي السحيق، بطريقة مقصودة غالبا، تؤدي إلى ردود فعل غاضبة عند الطرف الآخر، وبالتالي إلى إعادة شحن (بطاريات الحقد) بكامل طاقتها.

وأستعرض مثالين للدلالة: اعتاد بعض دارسي التاريخ من أبناء السنّة على إبراز دور العالم الشيعي الوزير ابن العلقمي في تسليم بغداد إلى هولاكو العام 8521، وبالتالي تحمل المسئولية الكاملة في مقتل حوالي مليون مسلم بعد أن أعماه حقده لأهل السنّة، إلى درجة أن خان الدين والوطن وتعاون مع الجزار الكافر. إن المسألة المهمة التي يتجاهلها هؤلاء المؤرخون هي: من الذي يتحمل المسئولية الأولى والكبرى في هذه المجزرة المروعة؟ والجواب الذي لا يمكن تحاشيه هو: الخليفة العباسي المستعصم، فهو رأس الدولة الذي يُحاسب أمام الله سبحانه وتعالى عن تلك الأرواح البريئة التي أزهقت على يد المغول. وإذا كان ابن العلقمي أقام علاقات مع هولاكو وكانت سببا من أسباب سقوط الدولة، فأين كان الخليفة؟ إن كان لا يدري عن تلك العلاقات فتلك هي الجريمة الكبرى، وإن كان يدري ويسكت فتلك هي الخيانة الكبرى، ولن يغير من الحقيقة شيئا أن يكتب عنه - الخليفة - بعض مؤرخينا «كان رحمه الله كريما لطيفا حسن العشرة...»!

المثال الآخر: ما يمارسه بعض المؤرخين الشيعة المعاصرين من الكتابة في قضايا تاريخية، فيتتبعون الدول والرموز السنية ويسمونها بكل نقيصة، متجاهلين كل ما يمس الدول والرموز الشيعية! فيسطرون الكثير عن سلبيات السلاجقة ويتجاهلون ذكر أي شيء يتعلق بالدولة البويهية. ويكتبون عن المظالم التي ارتكبها العثمانيون، بينما يسكتون عما ارتكبه الصفويون.

وهكذا، يشكل المثالان التاريخيان أعلاه نموذجا واضحا للممارسة الطائفية، التي أبطالها أناس أعطاهم رب العالمين عينين ليروا بهما بكل وضوح، فيصرون على قلع إحداهما ليروا بعين واحدة فقط! أو أعطاهم الله رجلين ليمشوا بهما في أكمل صورة، فيكسرون إحداهما ليقفزوا على رجل واحدة، فلا يصلون موضعا، ولا يؤدون واجبا!

ورحم الله عمر بن عبدالعزيز، الذي ذكر عنده ما حدث من اختلافات مؤسفة فاستشهد بالآية الكريمة: «تلك أمة قد خلت، لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عما كانوا يعملون» (البقرة 431).

عـقدة النسب والأرقام

لا أدري لماذا يصر البعض على سرد الأرقام والنسب المئوية التي تتكلم عن حجم الشيعة في مختلف مناطق العالم الإسلامي، وخصوصا في الشرق الأوسط والخليج، بطريقة تظهر بوضوح وجود رغبة قوية في التضخيم والتقليل، ثم ما الفائدة المرجوة من ذكر مجرد أرقام لم يتم إثباتها أبدا عن طريق إحصاءات حقيقية؟ إذا كان الظلم الذي وقع على بعض الطوائف، أقلية كانت أم أكثرية، في بعض المناطق هو السبب في عقدة الأرقام هذه، فإن اللجوء إلى ذكر النسب المئوية المضحكة لا يحل المشكلة، فالظلم لا يعالج بالتزييف! وسأكتفي بذكر مثالين عن دولتين تذكر عنهما أرقام غير قابلة للتصديق أبدا...

أولا: الإصرار على أن الشيعة يشكلون 56 في المئة على الأقل من سكان العراق. إذا اعتبرنا أن عدد السكان في العراق يبلغ حوالي 72 مليون نسمة، وأن الأكراد يشكلون حوالي 02 في المئة من السكان، والتركمان حوالي 5 في المئة، وأن حوالي 4 في المئة من سكان العراق من غير المسلمين (نصارى ويزيديون وصابئة)، فالنسبة المتبقية هي 6 في المئة فقط تشكل نسبة العرب السنّة! أي أكثر بقليل من مليون ونصف المليون، فهل هذا معقول؟ أين ذهب نصف سكان بغداد، ومعهم سكان الموصل وتكريت وسامراء والفلوجة والرمادي وهيت وعانة وراوى والحديثة والزبير وغيرها؟

ثانيا: هناك من يدعي أن الشيعة في إيران يشكلون 59 في المئة من السكان! والباقي من السنّة (3 في المئة)! وغير المسلمين (2 في المئة). هل يدرك قائل هذا الكلام أن عدد الأكراد السنة في إيران ضعف عددهم في العراق، أي حوالي 01 ملايين نسمة، بالإضافة إلى ملايين السنة في أقاليم (تركمان صحرا) في شمال شرق إيران، و(طاليش) على بحر قزوين، ومحافظة (سيستان وبلوشستان) في الجنوب الشرقي، ومناطق الجنوب وغيرها. فهل هؤلاء كلهم يشكلون 3 في المئة فقط من سكان إيران، أي أكثر بقليل من مليوني نسمة؟!

أليس من السهل أن يلجأ الطرف الآخر كذلك إلى لعبة الأرقام هذه، فندخل في دوامة من الترف العقلي، المؤدي بدوره إلى خلق حالات من الشك والحساسيات وتقديم سوء الظن؟

أمـثـلـة مـشـرّفـة

إن وجود أمثلة حقيقية في تاريخنا المعاصر القريب ليشكل دعامة قوية لإمكان تحقيق نوع من التقارب المذهبي، الذي ينعكس إيجابا على السلم الاجتماعي، ويقلل من نسبة التشنج الطائفي في مجتمعاتنا. وسأكتفي هنا أيضا بمثالين عسى أن يؤديا المطلوب:

على رغم أن «الإخوان المسلمين» التزموا بمنهج فكري إسلامي محدد، واعتبروه السبيل الأمثل لنهضة الأمة الإسلامية وعودة الروح إليها، فإنهم تميزوا بالانفتاح على المناهج الأخرى الموجودة على الساحة الإسلامية السنية. ويذكر أن من يتعصب لفكره والتيار الذي يمثله داخل المذهب نفسه، سيكون أكثر تعصبا متى تعلق الأمر بالمذاهب الأخرى، وأن الذي يتسامح مع غيره داخل نطاق المذهب كـ «الإخوان»، سيكون مهيئا نفسيا وفكريا لأن ينفتح على المذاهب الأخرى. وكان الشعار الذهبي الذي أطلقه في الأصل الشيخ محمد رشيد رضا، ثم تبناه وفعّله الشيخ حسن البنا، وهو شعار «نتعاون في ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه»، أقول: كان لهذا الشعار دور كبير في النجاح الذي لاقته حركة «الإخوان» في جميع المجتمعات التي وجدت فيها. إن هذا الشعار يتسم بالواقعية، والرغبة القوية في تقوية دعائم المجتمعات الإسلامية، وحمايتها من التمزق والانهيار الداخلي. وعبارة «يعذر بعضنا بعضا» تعني ببساطة: عدم الانشغال في الأمور الخلافية التي مضت عليها مئات السنين، في الوقت الذي تتعرض فيه مقدساتنا وأرضنا وأرواحنا وأعراضنا لدسائس الأعداء من الكفرة والملحدين.

كان ذلك اللقاء التاريخي الذي جمع بين مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» الشيخ حسن البنا، والزعيم الروحي لـ «فدائيان إسلام» في مكة المكرمة آية الله الكاشاني في الأربعينات حدثا مهما، كشف عن حقيقة يتناساها الكثيرون، وهي أنه بجوار الخلافات الموجودة، فإن المساحات المشتركة موجودة كذلك. وكان من الممكن أن تكون لهذا اللقاء نتائج بعيدة الأثر لولا أن الرجلين تعرضا للتصفية الجسدية على أيدي الطغاة، كل في بلده.

وفي مطلع الخمسينات، عندما لجأ زعيم «فدائيان إسلام» نواب صفوي إلى مصر، استضافه «الإخوان» وأبدوا معه كل تعاون في سبيل التصدي لمؤامرات الاستعمار والصهيونية.

أما المثال الثاني فعن تجربة آية الله الشيخ محمد الخالصي، المتوفى العام 3691، وهو ابن الشيخ مهدي الخالصي الكبير.

كان الشيخ الخالصي مثالا للسعي الحثيث إلى التقارب بين المذهبين في العراق خصوصا، وكانت له جهود طيبة في هذا المجال في خمسينات القرن الماضي. ويذكر عادل رؤوف بعض جهوده فيقول (بتصرف): «عقد لقاءات مع كبار علماء العالم الإسلامي، وصدرت نشرة واعية عن الوحدة الإسلامية... التقى علماء الحجاز، وشيخ الأزهر، ومفتي الشام الشيخ محمد بهجت البيطار وله معه مراسلات وحوارات عن قيمة الوحدة الإسلامية وإنهاض الأمة... واصل لقاءه مع علماء العراق، ونسق معهم في المواقف السياسية والاجتماعية وكان على رأسهم مفتي العراق الشيخ أمجد الزهاوي، والشيخ نجم الدين الواعظ، والشيخ فؤاد الآلوسي، والشيخ الشهيد عبدالعزيز البدري... كان اللقاء الكبير الذي أقيم في الصحن الكاظمي مشهدا حافلا ضم كل شخصيات العراق السنة والشيعة، العرب والكرد والتركمان، وعبر الحفل عن وحدة إسلامية جامعة...». (انظر: عادل رؤوف، عراق بلا قيادة، ص 173 - 373).

وهكذا يكون الحرص على رص الصفوف، والمحافظة على روح التسامح بين المذاهب، إذ عندما يصدق القول العمل تأتي الثمار يانعة طيبة، أما حين يكون القول مجردا من الفعل، ويقصد به البهرجة الإعلامية والمكاسب الشخصية، أو حين يكون غشّا للآخرين وإظهار غير الحقيقة، فحينئذ تكون الثمار حنظلا وعلقما!

إقرأ أيضا لـ "سلمان عبدالحسين"

العدد 366 - السبت 06 سبتمبر 2003م الموافق 10 رجب 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً