اختتمت في نهاية الأسبوع الماضي بالعاصمة الإيرانية طهران الدورة السادسة عشرة لدول عدم الانحياز، وسط أجواء إقليمية غاية في التعقيد. وقد عقدت الدورة السابقة في شرم الشيخ العام 2009 حيث تسلمت مصر آنذاك رئاسة هذه الكتلة، لحين انعقاد هذه الدورة.
وتعيد هذه المناسبة الظروف الدولية والإقليمية التي تكونت في ظلها حركة عدم الانحياز، وتتيح لنا الخروج بمقاربة بين الدور الذي تضطلع به هذه الكتلة في صناعة السياسة الدولية بالأمس واليوم. جاء تأسيس حركة عدم الانحياز استجابة لواقع موضوعي، حيث استعرت في بداية الخمسينات من القرن الماضي الحرب الباردة بين الكتلتين الاشتراكية والرأسمالية. وانقسم العالم في ولاءاته وتحالفاته بينهما، وفي خضم هذا التنافس برزت فكرة النأي عن الارتباط بأي من المعسكرين المتنافسين. كان الزعيم الهندي جواهر لال نهرو أول من تنبه إلى مخاطر الصراع بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي اللذين تحتوي ترسانتهما العسكرية على سلاح الرعب النووي.
فقد صرح بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أثقالها، بفترة وجيزة، وكان يشغل في أثنائها منصب وزير الخارجية آنذاك، بأن بلاده تعمل على تبني سياسة النأي عن الصراع الدائر بين معسكري الرأسمالية والاشتراكية. في مؤتمر باندونغ، بإندونيسيا العام 1955 أعاد نهرو تأكيد رفض بلاده الانحياز إلى أي من المعسكرين، ورأى أن الارتباط بأي منهما، يعرّض بلدان العالم الثالث للمخاطر، ويفقدها صفة الاستقلال. وقد تبنى المؤتمر المذكور مصطلح الحياد الإيجابي، لكن ذلك لم يستمر طويلاً، حيث تم استبداله لاحقاً بمصطلح عدم الانحياز. لكن المبادئ الأساسية لهذه الكتلة قد تحددت في هذا المؤتمر وعرفت بمبادئ مؤتمر باندونغ. نصت مبادئ باندونغ على احترام حقوق الإنسان الأساسية وميثاق الأمم المتحدة. وأكدت احترام سيادة كل الدول وسلامة أراضيها، وطالبت المجتمع الدولي بالاعتراف بمساواة جميع الأمم والأجناس، وعدم التدخل في الشئون الداخلية لأية دولة، وحق كل أمة في الدفاع عن نفسها فردياً أو جماعياً، ودعا بيان باندونغ إلى منع استخدام الأحلاف العسكرية للضغط على أية دولة.
وبالمثل طالب بمنع استخدام العنف ضد السلامة الإقليمية والاستقلال السياسي لأي بلد، وتسوية المشكلات الدولية بالطرق السلمية، وأكد أهمية تنمية المصالح المتبادلة والتعاون بين الدول، واحترام العدالة والالتزامات الدولية.
وفي مؤتمر بريوني بيوغسلافيا العام 1956م تبنى زعماء مصر ويوغسلافيا والهند فكرة «عدم الانحياز» إلى أيّ من المعسكرين. وعلى رغم معارضة زعماء بعض الدول النامية هذا التوجه، بقيت الكتلة قائمة، وواصلت الكتلة عقد مؤتمراتها بشكل منتظم. وقد شكلت الدول التي استقلت حديثاً إثر هزيمة الاستعمار التقليدي بالحرب الكونية الثانية، في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية قاعدة الكتلة العريضة. وكان أثر ذلك واضحاً في توسع أعضاء الكتلة من 21 دولة العام 1961م، عندما عقدت القمة الأولى، إلى 47 دولة في القمة الثانية العام 1962م ، وتضاعف عدد أعضاء الكتلة إلى أن بلغ 113 دولة.
وعبر هذه المؤتمرات تطورت أهداف ومبادئ الكتلة، محرضة على تبني سياسات مستقلة قائمة على تعايش النظم السياسية والاجتماعية المختلفة، وتشجيع حركات الاستقلال الوطني في المناطق المستعمرة. والأهم أنها رفضت بشكل حاسم سياسة الأحلاف العسكرية، وعدم الارتباط باتفاق ثنائي مع أي دولة من الدول الكبرى، أو السماح لدولة كبرى بإِقامة قواعد عسكرية على أراضي الدول غير المنحازة.
ومع بروز حالة الاسترخاء في العلاقة بين العملاقين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، إثر تبني الحزب الشيوعي السوفياتي بشكل عملي، سياسة التعايش السلمي في نهاية الستينات، تبنت كتلة عدم الانحياز مواقف إجرائية لتطوير صيغ التعاون فيما بين أعضائها. وضمن تلك المواقف الدعوة إلى إِنشاء مصارف لدول عدم الانحياز، وتنمية التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وتشجيع روابط منتجي المواد الأولية، كما حدث في مؤتمر كولومبو في سريلانكا العام 1975م، والدعوة إلى إقامة نظام اقتصادي عالمي جديد، أكثر عدالة، كما حدث في مؤتمر قمة الحركة بالجزائر العام 1973م.
المقاربة بين خصائص ومواقف كتلة عدم الانحياز بين الأمس واليوم، لن تكون صحيحة ما لم توضع في إطار تاريخي وموضوعي، بسياق التطورات في السياسة الدولية.
وفي هذا الاتجاه، ينبغي التذكير بأن نشوء الحركة جاء في الأصل رداً على استعار الحرب الباردة بين القطبين الأعظمين، وذلك يتضح من المسميات المختلفة التي حملتها الكتلة. فتعابير الحياد والحياد الإيجابي وعدم الانحياز، تشير إلى أن الكتلة تقف في وسط الطريق بين طرفين أو كتلتين، ولا تنحاز إلى أيٍّ منهما. والحياد وعدم الانحياز، في مضمونهما، كما أوضحت أدبيات الكتلة، يعنيان عدم الانخراط بالأحلاف العسكرية التي نشأت نتيجة ذلك التنافس، وبشكل خاص حلفا الناتو ووارسو والتكتلات العسكرية التي نتجت عنهما وهي عديدة. ويعني ذلك ضمناً عدم تقديم قواعد أو تسهيلات عسكرية لأي من الطرفين المتنافسين في البلدان المنضوية بكتلة عدم الانحياز.
في مجالات أخرى، لم يكن ممكناً تحقيق مطامح الكتلة، بسبب ارتباط معظم دول العالم اقتصادياً وسياسياً بهذا الفريق أو ذاك. فقد ظلت العلاقات متينة بين دول مؤسسة لكتلة عدم الانحياز مثل مصر ويوغسلافيا بالاتحاد السوفياتي. كما بقيت العلاقات الاقتصادية متينة بين الهند وبريطانيا، من خلال ارتباط الأولى بالكومنولث البريطاني. وحتى على المستوى العسكري، استمرت العلاقات وطيدة بين أعضاء الكتلة بأحد المعسكرين المتنافسين. فكوبا التي كادت علاقتها العسكرية مع الاتحاد السوفياتي تتسبب في حرب عالمية ثالثة، بين السوفيات والأميركان في أثناء حقبة الرئيس الأميركي جون كنيدي، هي عضو في كتلة عدم الانحياز. وهناك دول أخرى متحالفة عسكرياً مع الغرب، كالعراق أثناء الحكم الهاشمي.
وحين نأتي إلى موقف القوى العظمى من كتلة عدم الانحياز، نجده مرتبكاً وقلقاً وخاضعاً لقانون المنفعة، فالسوفيات يرون فيه أداة أميركية لمنع دول العالم الثالث من الارتباط بالمعسكر الاشتراكي، ومشروعاً ضد حركة التحرر العالمي، والأميركيون ينظرون إليه كمخلب قط لمساندة المشاريع السوفياتية بالعالم، ويستدل كل فريق على أطروحاته بمثل ينتقيه ليعزز وجهة نظره.
فالسوفيات على سبيل المثال، رأوا أن يوغسلافيا هي جزء من المنظومة الاشتراكية، فرطت منها والتحقت بالمعسكر الأميركي، بالتحاقها بكتلة عدم الانحياز رغم أنها احتفظت بهويتها الاشتراكية، والأميركان يطرحون اسم كوبا ليدللوا على أن الكتلة تابعة للاتحاد السوفياتي. والأمثلة في هذا السياق كثيرة، والحديث عن الخصائص والمواقف والمقاربات بين الأمس واليوم، لم يكتمل بعد، وبحاجة إلى المزيد من القراءة والتحليل ووضعه في سياق الحاضر، وهو ما نعد باستكماله في أحاديث مقبلة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3653 - الخميس 06 سبتمبر 2012م الموافق 19 شوال 1433هـ