أُعَوّل على الإنسان الذي لا تُحني هامته النكبات ولا تنال منه كُلّ محاولات الشراء في المزادات المفتوحة.
أُعَوّل على الإنسان الذي يُدرك حجمه وخطر ومركزية الدور الذي يلعبه. الإنسان الذي يُرتّب حيوات الآخرين ويكون بذلك يرتب حياته في الوقت نفسه.
أُعَوّل على الإنسان الذي لا يُغمض عينيه ولا يرفع يديه استسلاماً ولا يأوي إلى عزلته حين تكون الحياة وإنسانها في ورطة، وحين تكون الأسباب والعوامل التي تُسمّم الحياة حاضرة ومُهيمنة تكاد تُطبق على كل شيء.
لا أُعَوّل على الإنسان في المدن التي تتسابق للظفر بالأرقام القياسية في أطول ناطحة سحاب وأعرضها. لا أعوّل على المدن التي تتسابق للظفر بالحجر كي تستثمره فيما الإنسان آخر همّها. أعَوّل على إنسان تلك المدن كي يحقق المعادلات التي يتم التلاعب بها حيناً واستعراضها حيناً آخر، وتغييبها حيناً ثالثاً. أعوّل عليه لأنه صانع الأولويات، والقادر على إدارة دفة حياته كيفما شاء وارتأى.
أُعَوّل على الإنسان الذي يبتكر الأمل ولو حوصر باليأس، ويبتكر القوة ولو صودر ما يتكئ عليه، ويبتكر قدرته على الإعمار في شيوع الخراب وتمويله والدعوات إليه.
أُعَوّل على الإنسان القادر على احتواء الكراهية من حوله. أن يكون قادراً على الحب، متواصلاً مع صوره وشواهده. الكراهية هناك تظل قائمة ما بقيت الحياة؛ لكن عليه ألاّ يتعاطى معها باعتبارها نهاية تلك الحياة والقَدَر الذي لابد منه. أن يكون مشغولاً بدرْسه في الحب الذي يسهر عليه، وأن يترك الكراهية تمارس موتها البطيء بعد أن يكون قد استنفد إمكاناته كلها في إعادتها إلى رشدها.
أُعَوّل على الإنسان المنحاز لبساطته والمتمسّك بفطرته؛ مهما بلغ مبلغاً من المعرفة والمكانة والجاه والحضور الذي يبدو أنه لن يغيب يوماً. الانحياز والتمسّك بكل ذلك؛ لأن لبّ المعرفة البساطة والفطرة. كل اكتشاف ومعرفة بدأت بالفطرة والبساطة. فطرة أن يعرف وبساطة أن يذهب إلى تلك المعرفة. بهما يقدّم نفسه إلى العالم من دون إضافات ومكياج، ومن خلالهما يجوز وتفتح له مغاليق، ويعبر الحواجز ويجتاز سدوداً.
أُعَوّل على الإنسان الذي يظل محتفظاً بطزاجة ذاكرته. الذاكرة عنوانه وعنوان كل واحد منا. عنوانه الآخر الدالّ عليه في العالم الذي يتواجد فيه وله. فيه من الأثر ما كبر وصغر منه. إنها (الذاكرة) كشف حساب لك وعليك في الوقت نفسه. الإنسان من دون ذاكرة، والإنسان الذي تُصادر ذاكرته أو يُراد لذاكرته أن تكون في غياب أو إجازة اضطرارية أو مفروضة؛ يظل مُستهدفاً بذلك الغياب وتلك الإجازة. لحظتها لن يكون إنساناً؛ سيكون شبحاً أو ما دون ذلك.
أُعَوّل على الإنسان الذي يُوقّت ذاكرته ونسيانه؛ إذ يحتاج المرء أن ينسى أحياناً كي يتفرغ لتذكّر ما يبقيه يقظاً فاعلاً حركياً في الحياة.
أُعَوّل على الإنسان الذي لا يُرهبه الحشر بين أكثر من آلة: آلة الإغراء حيناً، وآلة الابتزاز والتهديد والوعيد حينا آخر، وآلة التصفية في نهاية المطاف حيناً ثالثاً، وغيرها من الآلات التي ترمي إلى احتوائه ووضعه تحت مجهرها ونظرها وسيطرتها وتوجيهها. مثل ذلك الإنسان هو من يصنع زمنه ويعطي لمكانه قيمة كبرى، ولمن يجاورونه حسّاً أو حضوراً، المكانة والقيمة نفسها.
أُعَوّل على الإنسان الذي يتجاوز الأقدار المصطنعة؛ إذ ثمة أقدار وقضاءات مصطنعة في هذا المنحى والحال، ولا يمكن تجاوزهما باسترخاء هنا، واستسلام هناك، وحياد ليس بريئاً أو مسئولاً هنالك.
أُعَوّل على الإنسان الذي لا يجد في منافع تُمرّر إليه نهاية عهد بثوابت كانت عناوينه في حراكه ومجالداته وجداله وملاسنته للذين يهندسون مآسي وعذابات غيره من البشر، حاضراً أو غائباً عن تفاصيل تلك العذابات. مثل ذلك التمرير له أثمانه التي تمسّ روحه وجدواه في الدرجة الأولى، قبل أن تمسّ الذين يتوجّب عليه الصمت عمّا يعانونه والإشاحة ببصره عمّا اعتادت عينه أن ترصده وتراه؛ حتى وهو في نومه الشحيح والنادر!
أُعَوّل على الإنسان الذي يحسبها ببساطة شديدة جداً: أن يحيا حياة ملؤها الذل والانصياع والركون والارتهان؛ أو أن يحيا حياة ملؤها العزة والفخر والشمَم ومناطحة الأفق الذي ارتضاه وعمّده بخياراته الصعبة والمُكْلفة في الحياة. أن يعيش أبد الدهر ولو لم يُعمّر في حياة لا تتيح مثل ذلك التمنّي لمن هم في مجالدة ومجادلة وملاسنة مع الذين يسيئون إلى الحياة وبشرها وأشيائها بوجودهم، وفوق هذا، هيمنتهم على تلك الحياة بالبطش ومنطق القوة.
أُعَوّل على الإنسان الذي إرادته ليست محلاً للمساومة والتفاوض الذي عهدناه استنزافاً للزمن والحقوق ليتحوّل في نهاية المطاف إلى سهرة ماجنة تجمع أطرافاً بينهم إراقة الدم أكثر من القرابة أو التعويل عليها.
أُعَوّل على الإنسان الذي لا ييأس من قدرته على المحاولة. محاولة أن يصل إلى مرماه الذي يصبّ في طريق ومرمى البشر الذين يذهب في المحاولة من أجلهم لا من أجل منافعه ومصالحه هو.
أُعوّل على الإنسان الذي ينحاز إلى الوردة لا الرماد، إلى الغناء لا النعي، إلى الوضوح لا الإيغال في الغموض لسبب ومن دون سبب، إلى قدرته على الفعل والحركة وقطيعته مع التفرّج والشلل، إلى إصغائه لما يقدمه في أبهى وأجمل صورة، لا إلى الذي يكون عرضة لمكنة التشويه والتشريح والنيْل منه أمام مهرجانات وجموع تعرّضه للعِبْرَة.
الإنسان الذي أُعوّل عليه لا يحتكم إلى الصُدْفة والمزاج. الصُدْفة نقيض التخطيط إلى الأهداف، والمزاج لا ثبات له، والأهداف تحتاج إلى رؤية وثبات في تلك الرؤية. ثباتها بمعنى وضوحها وإن تحركت في الطريق إليها.
ألا يكفي أن أُعوّل على الإنسان الذي أعنيه ولا تخلو منه الحياة؟ إنه الحياة في حقيقتها.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3652 - الأربعاء 05 سبتمبر 2012م الموافق 18 شوال 1433هـ