قبل أيام وضعنا سورية أمام مجهر الخارطة. فصَّلنا جغرافيتها وحدَّدنا جوارها، وبيَّنا مخاطر تمدُّد أزمتها إلى ذلك الجوار. بدأنا بتركيا، وقلنا إن وَجهَي الأزمة الممتدة يكمن في بعدين اثنين: اقتصادي وأمني. اليوم نعرِّج على لبنان، هذا البلد الهَش، الذي يجاور سورية ذات الجغرافيا الأكبر والتحالفات الدولية الأصعب والأعقد بـ 359 كم. حدودٌ قد تكون الأقل من بين الجيران، بعد الجولان والمتوسط، لكنها الأكثر جدلاً وإرباكاً، للبلدين نظراً لحجم التماهي القائم بينهما، فهم بمثابة النصفيْن الممزوجيْن في السياسة والاجتماع والأمن.
لا يمكن فهم العلاقة ما بين سورية ولبنان إلاَّ من خلال التاريخ وحوادثه. ليس التاريخ السحيق، بل المنظور؛ كي نصدِّق أكثر ما نقوله بشأن تلك العلاقة، كونه يندرج في إطار الدِّراية أكثر من كونه رواية. فكلّ مَنْ واكَبَ أحداث لبنان، منذ العام 1975 ولغاية منتصف العقد الماضي سيقف عند حضور سوري ملموس على أرض لبنان. فمن لا يذكر معارك الضاحية الشرقية لبيروت في العام 1978؟
مَنْ لا يذكر دخول السوريين في العام 1983 طرفاً في المعارك التي اندلعت بمدينة طرابلس بشقيها الإسرائيلي واللبناني. مَنْ لا يذكر دخولهم في معركة الجبل في العام ذاته، بين سمير جعجع ووليد جنبلاط. ثم في انتفاضة 6 فبراير من العام 1984 التي قامت ضد اتفاق 17 أيار بين أمين الجميِّل و «إسرائيل». مَنْ لا يذكر دخول السوريين ومعهم قوات جنبلاط في معركة سوق الغرب في العام 1989 ضد ميشال عون. ومَنْ لا يذكر معاركهم نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، ضد حكومة ميشال عون العسكرية والدخول بلبنان إلى اتفاق الطائف بغطاء إقليمي ودولي.
وخلال عقد التسعينيات من القرن ذاته، وبعد استقرار لبنان سياسياً إلى حدٍّ ما، الكل يتذكر الدور السوري المتغلغل في كل مفاصل الدولة اللبنانية سياسياً وأمنياً واقتصادياً، إلى الحد الذي كانت فيه الحكومة ورئاسة الجمهورية، وكل القيادات الأمنية تأتمر بما تريده دمشق حصراً. وقد رأينا كيف حصل التمديدان للرئيس إلياس الهراوي في العام 1995 وللرئيس إيميل لحود في العام 2004 حيث كان رستم غزالي، وغازي كنعان يديران الأمور كلها (في 10425 كم هي مساحة لبنان) بطريقة مباشرة وحديدية، بالتنسيق مع القصر الجمهوري والمخابرات الجوية في دمشق.
هذا التواجد السوري العسكري/ السياسي في لبنان لما يقارب الثلاثين عاماً، لم يكن يتعامل مع وجوده من خلال تعاطيه اللحظي، بل هو جعل من ديمغرافية لبنان ومؤسساته وقواه الدينية، وبيوته السياسية والاقتصادية لأن تتشكَّل في جزء كبير منها وبطريقة معقدة جداً، لصالحه. فعندما دخل السوريون إلى لبنان، كانت القوى اللبنانية مهيأة لأن تقيم علاقة معه بالطريقة التي تنتظم عليها مصالحها السياسية والدينية المرتبكة في الداخل، سواء عبر التحالف أو التنافر معها، والتي زادتها تعقيداً الحرب الأهلية، والاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وهكذا حصل.
فانشقَّ الشيعة، إلى حزب الله وأمل في بداية الأمر، فمال الأول إلى إيران الإسلامية، بينما مالت الثانية إلى سورية العلمانية. وقد قاد ذلك التغاير إلى معارك عنيفة بين الجانبين في إقليم التفاح، وقاتل حزب الله سورية في الضاحية، إلى أن انتظمَت العلاقة بينه وبينها لاحقاً، بعد تنسيق إيراني سوري أكبر في الملف اللبناني، وبالتحديد بعد اتفاق الطائف في السعودية. واليوم، أصبح حزب الله بمنزلة أمل في الحلف مع سورية إن لم يكن أكثر، ومَنْ بقِيَ من الشيعة خارج تلك العلاقة يكاد لا يُذكَر.
أما السُّنة فقد انشقوا هم أيضاً إلى مِلَلٍ ونِحَل سياسية. فأصبحت عوائل مرموقة منهم مثل كرامي والخطيب وغيرهما، بالإضافة إلى الحركات السياسية السُّنيَّة كحركة التوحيد وجمعية المشاريع الخيرية (الأحباش) والقيادات الدينية المستقلة داخلة في ذلك الولاء. وأصبحت هذه الأسر والقيادات، تدخل الحكومات اللبنانية المشكَّلَة، مثلما كانت تريد دمشق، كما حصل لحكومات الرئيس اللبناني الأسبق عمر كرامي، فضلاً عن الدعم السياسي في مختلف المجالات.
وانشق المسيحيون، الذين يتوزَّعون بشكل أساسي ما بين حزب الكتائب والعونيين والقوات اللبنانية وكذلك العوائل البارزة فيها كـ فرنجية وغيرها في الولاء ذاته. فكانت سورية تقف إلى جانب المتحالفين معها منهم في كلّ تشكيل للنظام السياسي، كما حصل للرئيسين الهراوي ولحود مثلما ذكرنا أو لفرنجية. ثم تعضَّدَت تلك العلاقة بمجيء التيار الوطني الحر بزعامة الجنرال عون، بعد عودته إلى لبنان في العام 2005، والذي غيَّر مسار علاقاته السياسية من مناكِف لدمشق إلى متحالف معها.
وانشق الدروز إلى آل جنبلاط وآل أرسلان وآل وهاب، وتوزع ولاؤهم أيضاً. فكان أرسلان ووهاب رَجلَي سورية في لبنان، بينما حارَ جنبلاط بين أن يحذو حذوهما كما فعل طيلة عقدي الثمانينيات والتسعينيات والنصف الأول من الألفية، وبين الولاء لقوى دولية وإقليمية أخرى. وخصوصاً أن الدروز لا يشكلون سوى 7 في المئة من مجموع الشعب اللبناني، وهو ما يجعل الخيارات بالنسبة لهم صعبة للغاية، عند اندلاع أي صراع على الأرض كما حصل في العام 2008.
وانشقت المنظمات الفلسطينية أيضاً في لبنان، فكانت منظمة التحرير الفلسطينية خصماً لسورية، بينما ظلت حركة المقاومة الإسلامية حماس وحركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية منظمات حليفة لها. وقد وصلت درجة التحالف إلى القتال إلى جانب القوات السورية في لبنان. وقبل شهور فقط، أعلن أحمد جبريل صراحةً، أنه سيقاتل إلى جانب نظام بشار الأسد إذا ما تعرّضت سورية إلى هجوم عسكري من الخارج.
هذه الولاءات التي أقامتها دمشق، ليست ولاءات عادية، وإنما هي في القشرة الصلبة لتلك التيارات والعوائل، وبالتالي فهي في عمق السياسة اللبنانية الداخلية وتحالفاتها في الخارج، وخصوصاً أن لبنان الداخل قائم على بيوت سياسية، وليس على خيارات شعبية. أضف إلى ذلك، أن هذه التيارات تمتلك قوة اجتماعية وعسكرية، وبالتالي فإن ذلك يُقسِم حتى الشعب اللبناني، ويربك موقفه من أي اضطراب قد يحدث في الضفتين. (للحديث صلة).
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3645 - الأربعاء 29 أغسطس 2012م الموافق 11 شوال 1433هـ
لبنان وسوريا
يعني سوريا داخله لبنان عرض بطول وفوق وتحت
وفقك الباري
أحرص على قراءت مقالاتك لما فيها من تحليل يسهل على القارئ فهم مجريات الأحدث ..
الوضع السوري اللبناني
تحليل غاية في الدقة والمصداقية لقد وضعت النقاط على الحروف في بيان العلاقات المتداخلة والتحولات في مواقف التكتلات السياسية والتي تصعب على القارئ العادي فهمها واستيعاب خلفياتها بارك الله فيك ورعاك