أكثر الأمراض الاجتماعية المقلقة، هي حين نتحوَّل إلى مجتمعات مُستجِيبَة لكل شيء. فهذا الأمر، يعطي تفسيرًا فوريًا، إلى أننا لا نمتلك مسارًا واضحًا ومُحدَّدًا لأفهامنا وأوضاعنا، فنفرِّخ كل ما نتلقفه من أفكار، ومشروعات في دواخلنا، عقلاً وشعورًا، ثم نُسَكِّنها في فضائنا العام، فنكون جنودًا نذود عن تلك الأفكار والمشروعات، ورايات تُرفَعُ في سبيلها، وخيولاً تسَرج من أجلها، لا لهدف جَلِي فيها ولا مصلحة ولا هم يحزنون.
أسوأ الأفكار، تتخطى رقابنا، وتجلس في مقدمة مجالسنا، فتتموضع بيننا دون أن نحرِّكَ ساكنًا! وأحطُّ المعارك، يوقَدُ أوار نارها بين أرجلنا فنخبط فيها بكعبنا على غير هدىً، ودون أن نتمتم حتى استفهامًا: إلامَ هذا يجري، ولماذا نحن فيه. فلا الأفكار أفكارنا، ولا المعارك معاركنا، ولا الغنائم لنا، ولا القِسمَة تشملنا، لأننا وباختصار، ليس لنا في عيرها ولا نفيرها شيءٌ يُذكَر. فالأوْلى ما هي إلاَّ خَلْفٌ سفاسف، والثانية درع مُهلهَلة، وبالتالي، تصبح التضحية في سبيلهما تبذير أحمق.
لكننا وفي الوقت نفسه، لا يفيدنا أن نضع يدنا على الدَّاء، ثم ترديده، وكأننا نجلد ذواتنا، دون أن نفقه سبب تسرُّبه إلينا بهذه السهولة، والمهرجانيَّة، وكأننا برميل مثقوبٌ في قاعه، ليس له غطاء. يجب أن نتساءل: كيف حصل ويحصل لنا كلُّ هذا، دون أن نتفاداه؟ كيف أصبحنا، لا نفرق حتى بين حَشَفِ التمر من جيِّده، فنتلقى كيفما اتفق، ما لا تقبله النفس نهيًا، والسلوك تعففًا، والعقل ترفُّعًا؟
باعتقادي، أن هذا الموضوع مُركَّبٌ بامتياز. فهو أولاً، مرتبط بغياب مشروع الدولة العربية. وغياب مشروع الدولة يعني، غياب المنتظم الوطني/ السياسي والسلوكي للشعوب، الذي يرى الناس من خلاله مواطنتهم، ومستقبلهم وأهدافهم وطريقة دفاعهم عن مبادئهم وأوطانهم وأفكارهم، وبالتالي اتحاد جميع الخيارات لديهم، ليتم توظيفها في خدمة ذلك المشروع حصرًا، وبكل وضوح.
عندما جاء الجنرال فرانكو إلى الحكم في إسبانيا، منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، وبداخله جموح دكتاتوري فاشي عارم، لم يستطع أن يتلاءم مع طبيعة المجتمع الإسباني، الذي كانت لديه ثقافة ديمقراطية ثورية قادتها البرجوازية خلال القرنيْن الثامن والتاسع عشر، فواجه ثورة جماهيرية/ عماليَّة تحوَّلت إلى حرب أهلية. ليس ذلك فحسب، بل إنه لم يستطع أن يجمع إليه جنودًا وعقيدة عسكرتاريَّة، يدافع بها عن مشروعه الفاشي، فلجأ لاستقدام 160 ألف مرتزق من خارج اسبانيا. تكرر هذا الأمر قبله، إبَّان وصول الجنرال بريمو دي ريفيرا إلى الحكم في إسبانيا أيضًا.
الأمر الآخر الذي يجعلنا مجتمعات مُستَجِيبَة لكل شيء، هو ارتباك موضوع الهويَّة، بالنسبة للشعوب العربية. فمسألة الهويَّة، مازالت غير واضحة المعالم بالنسبة للسَّواد الأعظم من الأمة العربية. فهل هي تنتمي إلى قوميَّة عربية، تجعل من اللغة، ووحدة الأرض والتاريخ والوجود والتأثير الروحي والنفسي منطلقًا، فيتداعَى إليها العرب كمادة، وجنس، وحتى من غير العرب، كما حصل بالنسبة لبعض الأتراك، الذين دخلوا قوميين عرب من بوابة الصراع مع الاستعمار الفرنسي.
أم ان الدِّين هو الركيزة لتلك الهوية، فيصبح لدينا مسلمون ومسيحيون وصابئة مندائيون ويهود ودروز وخلافهم من الأطياف الدينية، فتتوزَّع الخيارات والاهتمامات، وتتباين بذلك مقاساتها أيضًا طبقًا لذلك الطيف. أم ان الهوية لدينا هي ذات منزع طائفي، فتتحدَّد هويتنا بها، فيصبح لدينا شيعة وسُنَّة وقادريَّة وعلويون وإسماعيليون وزيديون وأضرابهم من التفريعات المذهبية، كما حصل في أوروبا قبلاً، عندما وُجِدَت لديهم الكاثوليكية والبروتستانتية وتفرعاتهما من كاليفانية وغيرها، وبالتالي، فإن الموضوع مرتبط بهذا الإرباك من التشظي والانقسام القاتل.
أمرٌ ثالث، مرتبط بالمسألة الفلسفية، وطبيعة الفكر، الناظِم لحياتنا، وبالتحديد رؤيتنا للأغيار من الناس، وما يحملونه من أفكار متباينة، والتي بسببها يتكوَّن التدافع بين البشر. فالعالم العربي، يعيش على مستوى الفرد والجماعة، نزعة تسلطيَّة، تجعل منه معاديًا لكل رقم مختلف يجده إلى جواره، معتبرًا إياه رقمًا زائدًا، لا يمكن تحمّله، فيبادر بطريقة آلية، إلى منح ذلك الآخر، نعتًا تحريميًا وتأثيميًا بدون سبب.
لذا، فإننا نجد، أن الكثير من حالات الاستجابة الاجتماعية السلبيَّة، للأفكار والمشروعات البائسة، تحصل نتيجة مناكفات سياسية وفكرية ودينية، تدفع أصحابها وبجهل الحمقى، لأن ينغمسوا ضمن تلك التشكيلات الحزبية والأيديولوجية المتوالدة، لأهداف لا تزيد عن النكاية بجماعات أخرى ناشِطة. وهي اندفاعات غرائزيَّة لا صِلة لها بالفكر ولا الدفوع العقلية، لذا، فتراها متوترة دائمًا، بل وميكيافيللية بامتياز، حتى لو ادَّعَت أنها جماعات ذات نزعة دينية.
هذه المداخل الثلاثة، هي التي تجعل منا مجتمعات مُستجِيبَة بشكل سلبي. الأولى تحتاج إلى تغييرات سياسية جوهرية إيجابية، والثانية تحتاج إلى حسم لمسألة الهوية، وعمادها الذي يجب أن يكون مُحققاً لرؤية متقدمة للمواطنة، دون النظر إلى التقسيمات الدينية والطائفية. والثالث يحتاج إلى إرخاء القبضة الأيديولوجية على العقل العربي، وتكسير ما تبقى من أصنام جاهلية، في الفكر، لكي يستطيع الفهم لدى الأمة، أن يتجاوز حقيقة الأشياء، دون مقدسات كارتونية واهية، أقامها البشر لأنفسهم دون وجه حق، عبر ادعاء أنهم يدافعون عن الحق والحقيقة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3640 - الجمعة 24 أغسطس 2012م الموافق 06 شوال 1433هـ
إضافة
كلام سليم مئة في المئة فنحن مجتمعات لم ننفك بعد من آفة التأثر بالخارج سواء بالخرافات السياسية أو الفكرية أو حتى الدينية