زيارة ولي العهد السعودي الأمير عبدالله بن عبدالعزيز لموسكو خطوة تاريخية يجب قراءة دلالاتها بعمق. فالزيارة في معانيها البعيدة والقريبة هي في النهاية لغة رمزية تتكثف فيها الكثير من الإشارات السياسية. فهي أولا رسالة إلى واشنطن. وهي ثانيا محاولة للقول ان خيارات السعودية ليست مقتصرة على صديق واحد. وهي ثالثا إعادة قراءة لسياسة دولية اشتهرت بها الرياض. وهي أخيرا بداية إيجابية لكسر حلقة من التحالفات يبدو انها وصلت إلى مستوى من عدم الثقة.
زيارة ولي العهد السعودي ليست عادية فهي يمكن تصنيفها من الخطوات التمهيدية التي ترفع مستوى التحالفات الدولية للرياض إلى درجة أعلى من تلك التي عرفت بها. فالمعروف عن الرياض أنها تتبع دائما سياسة الخطوات الحذرة في علاقاتها واختياراتها. وعرف عن السياسة الدولية للسعودية انها تميل دائما إلى المحافظة والتقليدية واشتهرت الرياض بأنها عاصمة لا تحب المغامرة ولا تضحي بالأصدقاء وتفضل دائما اصلاح ما هو قائم واتباع أسلوب الهدوء والتروي في معالجة الأزمات والإشكالات. وبسبب هذا الميل التقليدي والمحافظ اشتهرت الرياض بأنها عاصمة يعتمد عليها. ونظرا لثباتها في مواقعها الاستراتيجية وابتعادها عن اللجوء الى سياسات متسرعة وغاضبة تشكلت في السعودية مجموعة نقاط ارتكاز كان من الصعب ان تغادرها أو تتخلى عنها إلا في الحالات الاضطرارية ويكون الخصم هو دائما المسئول عن دفعها دفعا للبحث عن مخرج مختلف عن ذلك الذي اعتمدته او اختارته.
السعودية في هذا المعنى دولة تقليدية ومحافظة في سلوكها الداخلي وفي علاقاتها الخارجية، وكذلك في اختياراتها الدولية وتحالفاتها العامة مع المعسكرات والهيئات والمنظمات والمجموعات. فهي دائما تفضل سياسة الوسط. والوسط دائما عندها عدم التدخل في شئون الدول مقابل عدم تدخل الدول في شئونها وتحديدا مسألة الدين واحترام عادات البلد وتقاليده. فالسعودية لا تحب التغيير وإذا غيرت فإن هذا لا يحصل إلا بعد دراسة متأنية وقراءة دقيقة لمختلف التفاعلات والتأثيرات.
لهذا يمكن وصف زيارة ولي العهد لموسكو واجتماعه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطوة سياسية تكشف عن لغة مكثفة في إشاراتها ودلالاتها. فهذا الأمر لا يحصل ولم يحصل إلا بعد تفكير ودراسة وقراءة لكل الاحتمالات والانعكاسات وتحديدا تلك التي يمكن ان تصدر عن الولايات المتحدة الحليف الدولي الرئيسي للرياض. فالسعودية في خطوتها هذه كسرت الاحتكار الأميركي لعلاقاتها الدولية. هذا الاحتكار بدأ انطلاقا من علاقات الثقة المتبادلة التي ظهرت حين التقى الملك عبدالعزيز آل سعود الرئيس الأميركي روزفلت في باخرة في قناة السويس. في ذلك اللقاء التاريخي تأسست التحالفات على قاعدة الاحترام وبناء الثقة. فالثقة كانت حجر الأساس واستمرت تنمو وتصعد إلا أن وفاة الرئيس الأميركي قبل نهاية الحرب العالمية الثانية وقبل قرار تقسيم فلسطين واختراع «إسرائيل» شكل هزة لتلك العلاقة بسبب انحياز واشنطن لدولة تل أبيب في عهد الرئيس هاري ترومان.
إلا ان الثقة استعيدت بسبب انقسام العالم إلى معسكرين وميل السعودية التقليدي إلى إقامة علاقات مع دول لا تضطهد الديانات والتقاليد وتحترم المشاعر والمعتقدات. فكانت أميركا هي الخيار المفضل (وليس الأفضل) للسياسة الخارجية السعودية. فأميركا آنذاك وبسبب حاجاتها لكل العالم اضطرت الى فصل السياسة عن الاقتصاد، والاقتصاد عن الثقافة، والمصالح عن المعتقدات والديانات. وبسبب تلك البراغماتية نجحت واشنطن في نسج تحالفات لا متناهية من العلاقات مع الكثير من دول العالم في وقت فشل الاتحاد السوفياتي في تسويق استراتيجيته بسبب خلطه مختلف المستويات في سياسة واحدة لجأت أحيانا إلى التدخل في شئون الدول المستقلة.
واستمر الحال الى ما بعد سقوط المعسكر الاشتراكي إذ لم تنجح روسيا في تذليل العقبات وإزالة المخاوف والشكوك نظرا لسياساتها المختلفة في آسيا الوسطى والبلقان والشيشان. فكانت واشنطن هي المستفيد الأول من أخطاء موسكو وعدم نضج تحالفاتها الدولية وسياساتها الخارجية.
الآن اختلف الأمر. فبعد ضربة 11 سبتمبر/أيلول انقلبت الصورة وبدأت واشنطن تسلك سياسات متطرفة وتدخلية بضغط من «كتلة الشر» المسيطرة على «البنتاغون». فهذه الحفنة من الايديولوجيين (المحافظون الجدد) وضعت السعودية على قائمة الدول المعادية وأخذت تمارس سياسة تشهير ضدها انطلاقا من نزعة عدوانية ضد الإسلام وعنصرية ضد العرب في محاولة لتخريب العلاقات مع الولايات المتحدة وزرع الفوضى ودفع المنطقة إلى نوع من اللااستقرار... مهددة كل الدول الحليفة وغيرها.
لاشك في ان خطوة ولي العهد السعودي كسرت تلك الحلقة ووضعت العلاقات مع أميركا على مستوى آخر من التوازن الدولي. فالزيارة تاريخية فعلا لأنها أحدثت تغيرا في سلوك ثابت مضى عليه أكثر من 07 سنة. فالخطوة هي لغة سياسية تريد ان تقول: الولايات المتحدة صديق لا يؤتمن. وواشنطن عاصمة ليست أهلا للثقة فهي دولة تغدر حين تأتي الفرصة. فهل تنجح الزيارة في الغاء الفرصة؟ هذا هو السؤال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 363 - الأربعاء 03 سبتمبر 2003م الموافق 07 رجب 1424هـ