لم يكن أحد يتخيّل أن خير أمة أخرجت للناس تمارس أنظمتها أحط الأساليب ضد من يريدونها كذلك سعياً وراء تقويم معوجّ وأساليب وسياسات لا علاقة لها بالخيرية التي وردت في القرآن الكريم «كنتم خير أمة أخرجت للناس...» (آل عمران: 110)، وكأن صيغة الفعل تشي وتؤكد أن تلك الخيرية لا مجال لها في الاستمرار بفعل ما سيحدث ويرتكب من تجاوزات وقفز على الفطرة وبفعل السياسات التي تأنف عنها حتى الحيوانات والبهائم في بيئتها.

دول كان من قبيل الوهم والمستحيل تخيل أنها ستعود إلى رشدها بإذعانها اقتناعاً أو جبراً بأن سياسة النار والحديد لن توفر لها مكاناً في التافه من التاريخ لفرط من حجزوا أماكنهم فقرروا أن يتصالحوا مع الحاضر وشعوبهم بمراجعات وتنازلات لم تقصف أو تحسم من أعمارهم شيئاً؛ على العكس من ذلك أتاحت لهم فرص أن يكونوا على مستوى من الشجاعة ولو في الوقت الضائع، والأهم من كل ذلك اتاحت لشعوبهم ودولهم فرص أن يعيدوا ترتيب ما تركه الخراب طوال عقود من الهوس والجنون والألوهية المُتخيلة والمصطنعة.

الخيرية التي ذوت بفعل من تصدوا لأمر الأمة وهم أدنى من ذلك بكثير والممارسة خير شاهد على الأرض. الخيرية التي ذهبت بها شهوات واستفزاز طال كل شيء: الخيارات والعقائد ودُور ممارستها والاستفزاز الذي طال أيضاً تفاصيل تحط من قدْر وقيمة عقائد على تباين في التفاصيل مع من يرون أنفسهم رسلاً وأنبياء وهم في أسفل سافل الخزي والأخلاق.

الخيرية لا يمكن أن تكون صك ملكية دائمة مع عوَر في السلوك وشذوذ في المنحى وخذلان في التوجه والهدف. خيرية تكتسب مع شر ظاهر وشاهر ألويته في كل زاوية من زوايا الحياة والممارسة.

الخيرية ليست إرثاً وتوريثاً بحق أو باطل. إنها التجدد في الممارسة وتأكيدها والبناء عليها وتراكمها وإخراجها من دائرة الخاص إلى دائرة العام؛ بحيث يتلمس نتائجها البعيد قبل القريب والمختلف قبل المؤتلف.

لكأن انقطاع الرسالات في جانب من الرؤى ليس فقط لأنها اكتملت برسم المنهج فحسب؛ بل لأن ما سيبرز من جاهليات وصلف وتورّم في النفس لدى من سيأتي بعد ختام الرسالات تلك سيكون أشد ضراوة ومواجهة ونكراناً وكفراً بتلك الرسالات والاستماتة في تحديها وتسفيهها.

الاتكاء على خيرية سبقت لن يخلص الحياة من شرور من أصابتهم سكْرة وحَوَل في فهم تلك الخيرية فتوهموا أنهم المعنيون بها دون سائر الناس؛ فيما هم بتصديهم لأمر وقيادة شعوبهم يركسونها ويأخذون بها إلى المتخلف من المواقع والضائع والمعطل من الأهداف.

وإلا فأي خيرية تلك التي تتوهم أن البلاد والعباد ملك خاص يمكن التصرف به تصرفهم في مقتنياتهم الشخصية؟ وأي خيرية تلك التي ترى في القتل والسحل والتمثيل بالإنسان واجباً تفرضه مسئولية التصدي للأمر بغض النظر عن شرعية ذلك التصدي من عدمه والطريقة التي تم بها؟ ثم أي خيرية تلك التي تستنزف موارد الأمة وسرقتها وصرفها في الشاذ من المَوَاطن ويُحرم منها من هم أولى بها وهم موضوع مجالات الصرف والانفاق في وجوهه المختلفة وموضوعاته المتعددة؟ هذه المجتمعات التي يحكمها واقع تسلط أنظمة مستبدة وجشعة لا ترى عدواً غير شعوبها بحكم طبيعة التعاطي معها، ولا ترى أمناً واستقراراً إلا في أمنها واستقرارها الشخصي ولو على حساب الرعب الفائض الذي تسببه من أجل تحقيق أمنها الخاص، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصدّق وهْم أنها تمثل الخيرية بممارساتها تلك وأنها الوجه الحقيقي والمجسد لها؛ فيما الحياة برمتها تكاد تشكو الشر الذي لا ينقطع ويكاد يكون قدَراً بفعل سياساتها وعقلية استملاكها.

لا يمكن للخيرية أن تتحقق إلا بعدل من يتصدون لشئون الأمة. عدل تحرسه وتحوطه الكفاءة والقدرة على معالجة الأزمات والمشكلات والوقوف على مسافة واحدة بين كل مكونات الأمة مع رؤية تقترح الحلول في الغائب وغير المُلتفت إليه مما قد يجد في حياة الأمم من نازلات ونوائب.

تحضر الخيرية حين يكون الفرد آمناً مطمئناً على نفسه وماله وعرضه. حين يعرف واجباته من دون إملاء أو فرض عرائض ولاء من هنا أو هناك.

الخيرية لا تولّدها بيئات القهر والقمع والانتهاكات. تولدها بيئة الاعتزاز بالإنسان وتأكيد وتعميق كرامته وقيمته. لا خيرية يمكن أن تتحقق بعيداً عن الإنسان وهو في الهامش من معادلة الحياة. تتحقق حين يكون مركزها.