في القرن الماضي، مرَّ العالم بثلاثة منعطفات في ميزان القوة الدولي، الأول نتاج للحرب الكونية الأولى، ومحصلته تشكيل عصبة الأمم واعترافها بحق تقرير المصير، وسقوط السلطنة العثمانية، وانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العام 1917 في روسيا، وبزوغ قوى فتية جديدة.
ويصدق القول أيضاً، على النظام الذي انبثق بعد الحرب الكونية الثانية، إذ تراجع دور بريطانيا وفرنسا لمصلحة الإمبراطوريتين الأميركية والسوفياتية. وقد تهاوى هذا النظام بسقوط حائط برلين، وانهيار الكتلة الاشتراكية، والاتحاد السوفيايتي.
بعد أقل من ربع قرن على الهيمنة الأميركية، تعود روسيا والصين بقوة إلى المسرح الدولي، ولتكون حوادث سورية الدامية، فرصة سانحة للعمالقة الجدد، ليعبروا عن حضورهم على المسرح .والقضية كما بدت ليست التزاماً بمعايير القانون الدولي وأحكامه، قدر ما هي صراع إرادات، بين قوى تطمح إلى تأكيد حضورها وفاعليتها على المسرح .أما الآخرون، في العالم الثالث، فليسوا سوى بيادق تستخدم في لعبة بين عمالقة القوة، فوق أراض يتنافس اللاعبون على اكتسابها .
بدت ملامح أفول نظام الأحادية القطبية، مع التراجع الواضح للقوة الاقتصادية الأميركية ودول الاتحاد الأوروبي باستثناء ألمانيا، وبروز العملاق الصيني اقتصادياً، والتعافي السريع لروسيا الاتحادية، بما دفع بصامويل هانتنغتون للحديث عن عالم متعدد الأقطاب، بقيادة أميركية. وقد عبر هذا التراجع عن ذاته بأزمة الرهن العقاري الأميركية التي لاتزال تلقي بظلالها على اقتصادات أميركا وأوروبا، من خلال أزمات الديون السيادية الأوروبية وبشكل خاص في اليونان وإيطاليا والبرتغال، مهددة بانفراط عقد الاتحاد الأوروبي.
فالصين الشعبية، احتلت العام 2011 موقع ثاني أكبر اقتصادات العالم، وحققت معدلات نمو قدرها 10 في المئة. وراوحت تقديرات النمو في الهند بين 7 و9 في المئة. في حين حققت روسيا معدل نمو قدره 6 في المئة. ومن البديهي أن يصب التحسن في معدلات النمو الاقتصادي في هذه البلدان لمصلحة تعزيز عناصر قوتها الاستراتيجية والاقتصادية.
وعلى الصعيد العسكري، تأتي الصين عالمياً في الدرجة الثانية من الإنفاق على بناء جيشها ثم روسيا. وإذا ما أخذنا بالاعتبار القيمة الحقيقية لليوان الصيني والروبل الروسي داخل بلادهما، مقارنة بالدولار الأميركي داخل بلاده، يتضح لنا ضخامة حجم إنفاق هذه البلدان على تطوير ترسانتها العسكرية.
القاعدة في التاريخ، هي توزع عناصر القوة بين الإمبراطوريات، حسب ثقلها السياسي والعسكري والاقتصادي، وأيضاً قدرتها على اكتساب أراضي الغير، بالاحتلال والقسر. وهذا القانون، هو جزء من قانون الحركة، وبموجبه تنكفئ قوة وتحل محلها أخرى. ولم يسبق أن تفردت قوة بعينها بمقادير الأمور فوق كوكبنا الأرضي. بمعنى آخر، إن الأحادية القطبية هي استثناء غير متسق مع نواميس الكون، ولذلك توقع كثيرون ألا تستمر هذه الحقبة طويلاً، لأن الذي يحكم العلاقات الدولية هو صراع الإرادات، وليس التفاهم والتراضي بالتوزيع العادل للثروات.
وتتالت الحوادث، مؤكدة صحة هذه المنطلقات، فالقوة الجديدة، تصرفت بنشوة وقسوة غير معهودة، فرضت هيمنتها على الجميع، بما في ذلك هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، حيث تحولت هذه المؤسسات إلى أذرع في خدمة المصالح والسياسات الأميركية.
برزت بوادر التمرد على الهيمنة الأميركية، بشكل جلي عندما عرضت إدارة الرئيس بوش مشروعاً أمام مجلس الأمن الدولي، يجيز استخدام القوة العسكرية بحق العراق، لنزع أسلحة الدمار الشامل من ترسانته العسكرية. بمعنى إعطاء الضوء الأخضر، من قبل مجلس الأمن، لاحتلال العراق. واعترضت فرنسا على ذلك، وناصرتها ألمانيا في موقفها. وهدد المندوب الفرنسي باستخدام حق النقض، للحيلولة دون صدور قرار دولي يسمح بالعدوان على العراق. وقد دفع هذا الموقف، المدعوم بتأييد روسي وصيني، بالإدارة الأميركية وحلفائها، إلى التصرّف خارج مجلس الأمن. لكن ذلك أكد الاقتراب من نهاية حقبة الهيمنة الأميركية على المؤسسات الدولية، وبروز قوى قادرة على صياغة سياساتها الخاصة، بمعزل عن هيمنة الأحادية القطبية.
ولا شك، أن فشل أميركا في القضاء على المقاومة العراقية وحركة «طالبان»، واستنزاف خزينتها، لمقابلة استحقاقات الوجود العسكري في البلدين، أسهم في تراجع قوتها الاقتصادية والسياسية، وحيّدها عسكرياً، بما دفع بعسكريين أميركيين إلى التحذير من مخاطر انشغال القوات الأميركية في العراق وأفغانستان على الأمن القومي الأميركي، وأن أميركا لن يكون بمقدورها التصدي، لأي تهديد عسكري حقيقي لمصالحها بسبب غرق معظم قواتها في القتال بالبلدين.
كما أن الصعود الكاسح للمنتجات الصينية، ورخص أسعارها، مقارنة بالأسعار الأميركية، أسهم في تراجع الصادرات الأميركية، ومنح الإدارة الفيدرالية لقب أكبر دولة مثقلة بالديون في التاريخ الإنساني، حيث تجاوزت ما يزيد على التريليونين من الدولارات. وكان الحل الأميركي، لهذه الأزمة، تقوية النفوذ الصيني، بتمكينه من شراء نسبة كبيرة من السندات الأميركية، واقتراض مئات المليارات من الدولارات من مدخراته لتعويض النقص في الخزينة الأميركية. وبالقدر الذي تنمو فيه قوة الصين الاقتصادية والسياسية، تتراجع القوة الأميركية.
وقد أضاف نجاح برامج بوتين، لإنعاش الاقتصاد، واستعادة القوة العسكرية والسياسية لروسيا الاتحادية، مسماراً آخر، في نعش الأحادية القطبية. وكانت تعهدات الرئيس، باراك أوباما في خطاب التنصيب، بعد أدائه القسم، بإعادة الاعتبار إلى المؤسسات الأممية، وعدم الخروج على الشرعية الدولية، قد شكلت اعترافاً أميركياً صريحاً بتراجع النفوذ والقوة الأميركيتين في العالم.
وهكذا، فحين تقرر التدخل الدولي في ليبيا لإسقاط نظام القذافي، لم يتم التدخل بقيادة أميركية، بل بقيادة الناتو، وبحضور قوي فرنسي وإيطالي وأوروبي، ليعكس حقائق القوة في الخريطة الدولية الجديدة، ولتتوزع مناطق النفوذ في ليبيا، بين القوى التي قادت الحرب، وليس للأميركيين فقط، كما حدث سابقاً إثر احتلال العراق وأفغانستان.
الاستخدام الروسي الصيني الفيتو المزدوج ثلاث مرات بمجلس الأمن، لمنع صدور قرار يجيز تطبيق الفصل السابع بحق سورية، ووجود الأساطيل الروسية والأميركية، في البحر الأبيض المتوسط قبالة طرطوس، والتهديد الروسي بإمكانية اشتعال حرب عالمية ثالثة، مؤشرات تؤكد أن نظاماً عالمياً جديداً يتشكّل الآن، ولن يطول بنا انتظار توضّح معالمه وتفاصيله.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 3611 - الخميس 26 يوليو 2012م الموافق 07 رمضان 1433هـ
استثناء من القاعدة
ولكن هناك حقيقة واضحة وضوح الشمس لم يرد الكاتب التطرق لها في تحليله هذا رغم اهميته في توزيع موازين القوة وراجع دول وبزوغ دول كبرى اخرى ، وما نقصده هو بزوغ نجم ايران كقوى عظمى في المنطقة ، ام الاستثناء ليس فقط القطبية الواحدة فقط انما ايضا هذا الجمود العربي الذي لايتغير رغم هذا الربيع العربي وهذه علامة استفهام او ان لكل قاعدة شواد افي هذه التغييرات الكونية هو الجمود والتخلف العربي
العبره
آلامه الاسلاميه والعرب على الخصوص يبنون قبورهم بدل ان يثبتوا مواقعهم فى عالم لا يعترف الا بالقوي ،عدي دول محدوده ومعروفة تعمل جاهده لان يكون لها موقع رغم الضغوطات التى تفرض عليها