يتحدثون عن الثقة كما يتحدّث أحدهم عن حذائه وجوْربه وأشياء أخرى. يتحدّثون عنها باعتبارها سهلة سهولة تناول قرص أسبرين لطرد الصداع. يتحدّثون عن الثقة باعتبارها فخاً واستهبالاً للخلق ومحاولة لاستدراجهم إلى الكارثة. يتحدّثون عنها باعتبارها لزوم ما يلزم، ولا يهمّ بعد ذلك مقدّمات أو نتائج ذلك الاستهبال ولزوم ما يلزم.

في اللغة، ثقَة: اسم علم مؤنث، معناه: الاعتزاز بالنفس، قوة الشخصية، الاطمئنان.

وهو جدير بِالثقةِ: «من يُعْتمَد عليه ويُؤتمن به، الموثوق به».

أن تثق يعني أن تطمئن. لا ثقة من دون طمأنينة. الثقة هي قدرتك على التعامل مع من حولك والذين تنتخبهم من دون حواجز أو تحفّظ أو قلق أو ريبة أو أدنى شك. أن تثق يعني أن تكون من وثقت به، وأن يكون هو أنت.

أن تثق يعني أن تحطّم كل البرازخ والحواجز على اختلاف أشكالها ومسمّياتها ومسبّباتها. أن تكون في حلّ من الكشف والمصارحة والاعتراف. أن تكون قادراً على نسيان تفاصيلك الخاصة أو ما تظنها كذلك. أن تمعن في المشاركة فيما تراه حكْراً عليك. تلك المشاركة تجعل منك كلاً لمن وهبته تلك الفرصة من الثقة، وأن يكون كلاً منك في الوقت نفسه.

لا غنى لأيّ منا عن حبّ الناس كي يحبّ نفسه؛ لكن من الغباء والعتْه والسذاجة أن تثق في كل الناس. أن تحبّ بني جنسك أمر، وأن تثق بهم أمر آخر. ثمة من يخلط بين الاثنين، وبعض يطالب بالاثنين معاً: أن تحبّه وتثق به.

لم يتجنَّ وليام شكسبير على أحد، ولم يمارس تحريضاً أو تفتيتاً لعرى العلاقات الإنسانية حين كتب: «أحب جميع الناس؛ لكن ثق بالقليل منهم».

في الاحتراب المصطنع وفي القلاقل المصطنعة وفي الفتن المصطنعة من قبل أجهزة تتحكّم في حيوات ومصائر الناس، أكثر ما تتوخّاه وترجوه وتحلم بتحققه هو ضرب الثقة بين المكوّنات كي تخرج تلك الأجهزة من ورطتها وقت الأزمات بسخط الناس على أدائها وانتهاكها لحقوقهم بشكل صارخ. ضرب الثقة بين المكوّنات هو الثمرة التي تسعى تلك الأجهزة إلى قطفها كي تظل في مأمن - كما تتوهّم - وكي تشعر أن انشغال المكوّنات بالفتن تلك يتيح لها الوقت للمناورة وإعادة ترتيب أوضاعها واستراتيجياتها في الهيمنة على المراحل التي تلي تلك الفتن، ظناً منها أن قدرتها على التحكّم في تلك المساحة من الروح والنفس بعد الخراب الذي أحدثته يُمكن له أن يحدث بكبسة زر؛ أو أوامر تصدر من هنا أو هناك.

يعلم كل منا حجم الشرْخ الذي حدث. يتفقّد كل منا وجوه وأصوات من كانوا يوماً إخوة وأحبّة وأصدقاء. انحازوا لوحش ونتانة الوشاية من دون مقابل. فقط انطلق كل منهم من زاوية منافعه، في مؤسسة، هيئة، وزارة، وحتى مقهى وسبيل! البعض لم يكن تحت ضغط غول الاستجواب وما يترتب عليه من إهانات للنفس والجسد، في خبرات تكاد تكون استثنائية في مراكز العزل والاستجواب. لا شيء من ذلك أصاب أو تعرّض له بعض من كانوا إخوة وأحبة وأصدقاء وموضع ثقة. فقط هي «الأريحية في جانبها المنحرف!» التي تَعِدُ بالفائض مما هو غير حاضر أو مُتَحَصَّل عليه.

يوم أن بُنيت الأخوّة والمحبّة والصداقة وحتى الثقة كانت الطريق معبّدة بحكم أن الناس كانوا بمنأى عمّا يُدبّر لهم في نهار لا ليل فحسب. اليوم باتت الطريق وعرة وشائكة، وليس من السهولة بمكان إقناع من ضُرب في مقتل أنّ ما حدث كان مجرد سوء فهم، وأن استغفالاً مورس على الجميع، وأن المرحلة كانت مضطربة، اضطربت معها قناعاتنا وثوابتنا وما يرتبط بتلك القناعات والثوابت. مثل تلك الوصَفات لن تعمل على مداواة جراح، ولن يكون لها تأثير في هدم جدار ضخم من الشكوك وعدم الاطمئنان؛ عدا الحديث عن عودة الفردوس المفقود (الثقة).

في الكوارث والأزمات تعاني الثقة نفسها من أزماتها الخاصة؛ وخصوصاً حين تُمحى وتزول في المفترقات الصعبة والحرجة. تزول بسهولة القبض على الثمن والمنافع الماثلة والشاخصة؛ أو تزول بصعوبة الجَلَد والتحمّل والتمسك بقيم تنتهي قيمة أصحابها بزوالها. كل ذلك يصبح في مهبّ الريح ومهبّ اختبارات لا مجال فيها للإعادة ساعة الفشل البيّن؛ لأنها تُحدّد بشكل أو آخر مصير وقدرة البشر على التعايش مع أنفسهم قبل التعايش مع الآخرين.

بعد كل ذلك، يُراد لك في هذه الفخاخ التي على امتداد البصر أن تذهب في ثقتك بمن هو مشغول بالمكر والاغتيال لروحك. يراد لك ألاّ ترجف أطرافك وأنت ترى تفاصيل الأخذ بك إلى الحتف من دون أن يطرف لخازن الموت أو وكيله جفن.

بات ممنوعاً على من يريد أن يحصِّن روحه ووجوده ألاّ يثق في ذئاب بشرية تُتقن لعبة الغدْر وتُحسن سوء النهايات.

أيتها الثقة، لستِ صرّافاً آلياً على أحد الأرصفة سيستجيب لنا حتى لو كانت أرصدتنا صفراً. ذلك أمر حتى الآلة المبرمجة تستوعبه وتدرك شروطه؛ فكيف يراد للإنسان أن يكون عرضة للاستهبال وأن يتحول إلى صراف آلي يلوّح بالنقي من مشاعره؛ فيما الآخرون يلوّحون بكل ما أتوا من أدوات طعن واغتيال؟

أيتها الثقة، سئمنا فائض الطِيبة والهَبَل الذي يحط علينا وننسى أن القلوب والناس معادن، بعضها من جنس ومعدن لا ترى فيه غير الصدأ.