عندما أعدت «الرابطة الأميركية لمديري المدارس» (American Association Of School Administrators) بحثاً بعنوان (إعداد التلاميذ للقرن الحادي والعشرين) طرحت سؤالاً: ما المحتوى الأكاديمي الذي يحتاج التلاميذ إلى إتقانه للنجاح في هذا القرن؟
أشارت نتائج البحث إلى موافقة الغالبية من الخبراء على أهمية الدراسات المحورية، متمثلة في الرياضيات والمنطق ومهارات التفكير والتعلّم الوظيفي والإجرائي وفهم مبادئ الإحصاء وغيرها.
وبالمثل، فإن تقارير هيئة ضمان جودة التعليم والتدريب تشير إلى تقدّم في نتائج طلبة الحلقة الأولى من التعليم الأساسي على مدى ثلاثة أعوام متتالية في معظم المواد الأساسية، باستثناء مادة الرياضيات التي تبيّن التراجع فيها، وبأن طريقة تقديم المنهج تساهم في تمكين أغلب طلبة الحلقة الأولى من اكتساب مهارات القراءة والكتابة في اللغة العربية، وبصورة أقل في المهارات الحسابية، لذا ـ وبهدف التحسين ـ فإن الهيئة توصي المدارس بضرورة تنمية المهارات الأساسية لدى التلاميذ في جميع المواد الأساسية، وبخاصة مادة الرياضيات.
وبناءً على ما ذكر، ستقوم وزارة التربية والتعليم بدءاً من سبتمبر/ أيلول 2012 بتنفيذ «استراتيجية الثقافة العددية للبحرين» (Bahrain numeracy strategy) على الحلقة الأولى من التعليم الأساسي بالمدارس الابتدائية، وهي استراتيجية مهمة تركّز على الارتقاء بمعايير الثقافة العددية، وتهدف إلى رفع مستوى أداء جميع الطلبة في الرياضيات عن طريق تحسين جودة التعليم والتعلُّم والتقويم وتخطيط المنهج في المدارس، من خلال توفير الإطار العام والإرشادات التي تمثل الرياضيات التي ينبغي أن تدرس في كل صف دراسي، وتوفير إطار مرجعي وتوجيه وتدريب المدراء والمعلمين ودعمهم في كيفية تدريس الرياضيات وتقويمها، وإشراك جميع المعنيين في النظام التعليمي؛ لضمان وجود منهج متسق لتعليم وتعلم الرياضيات في مملكة البحرين.
هذه الاستراتيجية استوحتها الوزارة من التجارب الدولية المشابهة والناجحة في دول أخرى مثل: مشاريع تطوير الثقافة العددية في نيوزلندا، واستراتيجية التعلم والثقافة العددية في فيكتوريا وأستراليا، والاستراتيجية الوطنية للتعلم والثقافة العددية في بريطانيا. إلى جانب الاستفادة من مجموعة أبحاث مهمة عن التعليم الفعال للثقافة العددية والتي شملت: الثقافة العددية الابتدائية: مراجعة لخطط وتحليل البحث الأسترالي في تعلم الثقافة العددية للمرحلة الابتدائية وغيرها.
باختصار، تقوم هذه الاستراتيجية على طرق تدريس فعالة يستخدمها المعلمون للثقافة العددية من خلال ربط مجالات الرياضيات وعدم تجزئتها، ومعالجة المفاهيم الخاطئة لدى الأطفال، واستخدام الأساليب الذهنية المكتوبة والأكثر فعالية في حل المسائل، وتنمية المهارات الذهنية والتأكد من أنها تتحدى ذهنية جميع الأطفال بلا استثناء، وتشجيع المناقشة في جميع الصفوف ضمن مجموعات صغيرة أو مع الأطفال بشكل فردي.
منذ أيام، زوّدني أحد مدربي «لعبة الشطرنج» بدراسة ميدانية أجريت في صفين متماثلين يدرسان مادة الرياضيات نفسها بالمرحلة الابتدائية في ألمانيا، الصف الأول (المجموعة التجريبية) يتم تعليم التلاميذ «لعبة الشطرنج» لمدة شهر واحد فقط مع وقف تدريس مادة الرياضيات، بينما في الصف الثاني (المجموعة الضابطة) يدرس التلاميذ مادة الرياضيات فقط؛ لتظهر النتائج تفوق تلاميذ المجموعة الأولى على الثانية على مستوى التحصيل الدراسي في الرياضيات!
كما هو معلوم بأن لعبة الشطرنج من الألعاب الذهنية المميزة في مضامينها الفكرية والنفسية والقانونية والروحية وغير ذلك، وتكاد تكون اللعبة الوحيدة التي تجمع بين الصمت والتفكر الهادئ وبين عمل العقل والحسابات، بم يفكّر الآخر؟ ولماذا؟ وكيف؟ على عكس الألعاب الأخرى التي تفتعل الضجيج والإثارة.
إن تعليم الأطفال لعبة الشطرنج منذ سن مبكرة تعود عليهم بفوائد فكرية وأكاديمية واجتماعية ونفسية عدة، وقد ذكر الخبراء علاقتها برفع مستوى التحصيل الدراسي للطلبة وتحديداً في مواد مثل الرياضيات والعلوم ورفع معدل الذكاء (IQ)، وتقوية الذاكرة والتركيز والتخيّل البصري، وتدريب العقل على تخطيط الاستراتيجيات ووضع الاحتمالات الممكنة لحل المشكلات واتخاذ القرارات المهمة، وتزويد الطفل بمهارات التفكير الناقد أو مهارات التفكير العليا كالتحليل والتركيب والتقويم، وتتحدى قدرات الأطفال الموهوبين والأقل موهبة على حد سواء، كما تربي الأطفال على قيم الصبر والجد والمثابرة والالتزام والانضباط الذاتي الثقة بالنفس واحترام الذات والتكيف مع المواقف الصعبة، وبأنهم مسئولون عن أعمالهم والقبول بنتائج قراراتهم مهما كانت، والقبول بالخسارة كما القبول بالفوز، علاوة على الفوائد الاجتماعية في تنمية مهارات التواصل وتكوين الأصدقاء. في عصرنا الحالي، أصبحت هذه اللعبة من أهم الرياضات في العالم، لدرجة أنه في العام 2011م أعلن كل من بطل العالم السابق في لعبة الشطرنج غاري كاسباروف ورئيس الاتحادية الأوروبية للشطرنج سيلفيو داناييلوف عن مشروع (الشطرنج في المدرسة) للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 أعوام و18 عاماً، والذي يهدف إلى تحويل هذه اللعبة إلى مادة من المواد التعليمية في المدارس الأوروبية، حيث قال كاسباروف: «إن المشروع يعزز البرامج التعليمية، وله تأثير كبير اجتماعياً، حيث يجمع بين الصبيان من مختلف الشرائح الاجتماعية، كما أنه عنصر مهم جداً خلال الأوقات الاقتصادية الصعبة؛ لأنه غير مكلّف)، ويذكر أن الولايات المتحدة الأميركية قامت بإدخال (لعبة الشطرنج) ضمن برامجها التعليمية منذ العام 2002.
خليجياً، فقد تمّ التوقيع على مذكرة تفاهم مشترك بين الاتحاد الآسيوي للشطرنج ووزارة التربية والتعليم بسلطنة عمان في فبراير/ شباط 2012 على إقامة دورة تدريبية للمعلمين لتعليم اللعبة لنحو 40 مدرساً ومدرسة، تعدُّ بمثابة نواة لتنفيذ المشروع مستقبلاً. أما في البحرين، ففي العام 2009م أقامت وزارة التربية والتعليم بالتعاون مع الاتحاد البحريني للألعاب الذهنية الحفل الختامي للبطولة المدرسية الأولى للشطرنج على مركز رعاية الموهوبين بالمحرق، في الوقت الذي لا نخفي رغبتنا المؤكدة في أهمية البدء بإدماج «تعلّم الشطرنج» في المدارس الابتدائية، وذلك على مرحلتين، الأولى: ربطها بالأنشطة الرياضية ككرة القدم والسلة والطائرة وغير ذلك، أما المرحلة الأخرى فتتمثل في تخصيص مادة أكاديمية نظرية باسم «تعلّم الشطرنج»، جنباً إلى جنب مع الأنشطة العملية.
تصريحات المسئولين بالوزارة مشجعة في إمكانية تضمين هذه المادة في مناهج المواد الإثرائية؛ لأنها تأتي في صلب العملية التربوية، ولما للألعاب الفكرية من دور فعال كغيرها من بقية الألعاب التي تبرز فيها المواهب والإبداعات، كما وتوسّع ـ على حسب كلام المسئولين بالوزارة ـ نظرة العقل إلى الحياة عموماً واستشراف المستقبل؛ لأن الطالب عندما يلعب الشطرنج فإنه يفكّر كيف يخطط للمستقبل.
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3599 - السبت 14 يوليو 2012م الموافق 24 شعبان 1433هـ
الثقافة العددية
استراتيجية الثقافة العددية مو زينة للطفل اتخرب المستوى