المُلْك شيء عظيم. ولفظة عظيم، وَرَدَت في القرآن تسعاً وأربعين مرة، توزعت على أوصاف عديدة، كالأجر، والعذاب، والبلاء والفضل، واليوم والسحر، والبهتان، والكَيْد، وغيرها من الأوصاف. لذا، فمن الطبيعي، أن نصِف المُلْك بأنه شيء عظيم فعلاً. عظمته ليست في جاهِه ورفاهه وقوته وميسور صاحبه، وإنما من حجم ما هو عليه من مسئولية، تجاه من يتسيَّد عليهم من رعيَّة. كيف يسوسهم، وبأي شكل. متى يعفو، ومتى يؤدِّب، ومتى يحنو، ومتى يأمر، ومتى ينهى.
لنا أن نتخيَّل، أن ربُّ الأسرة في بيته، قد يظلم أحد أبنائه أو بعضهم، أو يُميِّز هذا عن ذاك. وهو إن فَعَل، فقد جاء شيئًا إِمْرًا؛ لأنه ليس من العدل أن يُجرِي ذلك على أبنائه. ورغم أن الأبناء بطبيعتهم قد يغفرون لأبيهم ظلمه لهم عندما يهرم ويحدودب ظهره، أو يُوافى به حفرته، لأنهم من دَمِه، إلاَّ أنه وفي أحيان أخرى قد لا يغفرون له ذلك. تصوَّروا أن كل ذلك السِّجال، والخصومة، تحدث في بيت لا تزيد مساحته عن الخمسمئة متر مربع في أفضل الأحوال، وبين نُسَباء في الدم!
أما إذا تخيَّلنا، أن المشهد ذاته، يجري على أرض تزيد مساحتها عن المليون كيلومتر مربع، وبين أناس تزيد نفوسهم عن العشرين أو الخمسين مليون إنسان، لا يجمعهم بمن يتسيَّد عليهم نسَب أو قرابة، سوى أنهم نظرَاء له في الخلق، فماذا سيحصل يا ترى؟! إنه لأمرٌ مهُول حقاً. فأين عماد العدل يكمن؟ وكيف يسير؟ وبأي وسيلة يرفعه ويحافظ عليه فيحمي به الناس، ويصون به الحرمات والأعراض؟ هنا، تأتي ثقافة الحكم. فإذا كانت الطاعة، هي ما يعِزُّ السلطان بها حكمه، فإن العدل على العامة، هي ركن الأركان، في أن تتحقق تلك الطاعة له من رعيته برضا نفس.
هؤلاء الناس، هم في مقام الأبناء للحاكم. نعم، أبناء يُدينون له، رغم أن الدَّم لا يحكم علاقتهم به. لكن التشاركية القائمة بينهما، والتي وردت في العديد من المفردات بالتلازم (الحاكم والمحكوم/ الراعي والرعية/ السَّائِس والمسوس) تمنحه صفة الأبوَّة لهم، وتمنحهم صِفة البُنُوَّة له. وإذا ما أراد ذلك الحاكم من رعيته أن يعاملوه كأب، فعليه أولاً أن يعاملهم كأبناء له، يوفر لهم الكرامة، والأمان والإحساس بالانتماء المشرّف، ثم تأتي بعدها متطلبات العيش الكريم، من تعليم جيد، ورعاية صحية، ومسكن لائق، وخلافها من الأمور الحياتية، التي باتت من مسلَّمات الأمور.
أكبر تحدٍّ يواجه الحُكَّام، هو كيف يستطيعون مدَّ أبصارهم، ورعايتهم، إلى أبعد نقطة في البلد الذي يحكمونه، حيث يعيش جزء أو آحاد من الرعيَّة هناك، فيرى أمرهم، وما يحتاجونه. فإذا ما تحوَّل ذلك الهمُّ إلى سلوك عملي، لدى الحاكم، فيدفعه بشكل أوتوماتيكي لاستشعاره في ليله ونهاره، أمِنَ منهم ما أمكن من الطاعة، التي يُعَزُّ بها سلطانه. أما إذا اختصر العباد في أصحاب الذوات والقريبين منه، والبلاد في حجارة القصور، فلن يستطيع أن يقيم وازن العدالة مطلقاً، بل على العكس سيكون ضررًا عليه، حيث ينمو الرفض والحنق والعصيان على أمره، فتبدأ شرور العداوات، ويبدأ ملاك الطاعة له يهتز.
صحيح أن مفهوم الدولة قد تطوَّر، وأصبحت أنظمتها وبيروقراطيتها تشمل العديد من الأشكال المؤسسية، التي من خلالها يتمُّ التعامل مع شئون البلد والناس، إلاَّ أن ميزان العدالة بقي على حاله، بل إن كل ذلك التطور في الدولة هو من أجل تلك المفردة (العدالة). كما أن الوسائل التقليدية في الحكم، حيث النزول إلى الرعية وجهًا لوجه، تبقى هي الأكثر تأثيرًا على أي وسيلة أخرى. لاحظوا الذين يودُّون الترشُّح في الانتخابات، كيف يحرصون على زيارة الناس في مدنهم وحاراتهم، بل وفي أزقتهم وبيوتهم، ذلك، لأنهم يدركون، أن هذا الأمر، هو الأمضى والأقوى للأخذ بأفئدة الناس، لكي تأتي إلى صناديق الانتخاب، وتقول نريد هذا الرجل دون غيره.
هذا الأمر يسري حتى في الدول العظمى كالولايات المتحدة الأميركية، فترى الرئيس هناك يجوب الولايات، ويلتقي الناس، بشتى أطيافهم، من أغنياء وفقراء وعمال، ومفكرين، لأن الناس بطبيعتها تُكبِر من يصلها من الحكَّام، فتحس أنه منها. هذا الأمر واضح جدًا.
نعم... الحكم ليس حالة مهرجانية، تقتضي المتعة بالخيرات على نفس الحاكم، وإنما هي مسئولية جسيمة. مسئولية جعلت من الخليفة الأموي الصالح، عمر بن عبدالعزيز يتمتم حتى نهاية عمره كلما قيل له: أَبْشِرْ فَقَد صَنَعتَ خيرًا، فيرد: فَكَيْفَ بِخُبَيْب؟ لأنه في أحد الأيام، وعندما كان واليًا على المدينة ضرب خُبَيْب بن عبدالله بن الزبير بن العوَّام (بأمر من الوليد بن عبدالملك) خمسين سوطاً، وصَبَّ على رأسه قربة ماء في يوم بارد، وأوقفه على باب المسجد يوماً فمات، رغم أن عمر نَدِمَ على ما فَعَلَ بحق خُبَيْب، واستعفى نفسه من الولاية على المدينة، وأعطى أهل الزبير ديته وقسَّمها فيهم. هذه ثقافة المُلْك إن أراد أحدٌ أن يتأمَّر على الناس، فلا يظلم ولا يقسوا ولا يحرم أحدًا من رعيته من حياة أو مال أو رزق أو عيش كريم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3598 - الجمعة 13 يوليو 2012م الموافق 23 شعبان 1433هـ
واحد لا شريك له قال: إعدلوا كما قال إعملوا
قد تجد ما لذّ وطاب من المسميات منها العدالة الانتقالية واخرى نسبية تنسب للعدل ولا عدل فيها. فالعدل عدل يقطع فيه الشك باليقين فلا جدال فيه ولا نزاع، لكنه يحتاج وزنٌ وقسطٌ . فلا يمكن تفصيله أو تعديله مثل الدساتير.
فهل يمكن أن يكون العدل مؤنث أو مذكر؟
وهل هجر أم لم يعرف العدل؟
على الوتر
مقال رووووعه على الوتر
100 على 100