لا يخفى على عاقل أن مشكلة الطائفية أصبحت أول الأخطار وأشدها، والتي تهدد بشق صفوف العالم العربي والإسلامي، بما تحمله من تمييز طائفي وتعصب لأفكار ومعتقدات تنتسب لمذهب دون آخر، أو محاباة لطائفة دون أخرى، أو إلغاء الآخرين دون مبالاة بأية روابط اجتماعية أخرى مع أبناء المجتمع. وقد تعتبر نزوعاً مضخماً للأنا تجاه الآخر، كما أنها عكس الوطنية التي تتبنى مبدأ المساواة والعيش المشترك دون أي تمييز.
ان مسئولية تدعيم ركائز مفهوم الوحدة الوطنية والوعي بما تحمله من معانٍ، تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع دون استثناء، ومنها بناء علاقات مجتمعية ناضجة تحمل قدراً كبيراً من العدالة وتقاسماً مشتركاً للحقوق والواجبات، والمشاركة الصحيحة في الموارد والثروات، والتقنين الواعي والمسئول للتباين الطائفي. بذلك كله سنكون أمام الأرضية الخصبة التي تزدهر فيها الوحدة الوطنية وتنضج ملامحها، ونبتعد عن التمييز الطائفي.
وحيث ان للتمييز الطائفي أسباباً كثيرة، فإننا نجد أن من بين أهم أسبابه، أن بعض مدعي الثقافة في الوطن العربي ودول الخليج على السواء، مازالوا يعكسون حالة التجزئة والشرذمة والاحتقان الطائفي الموجود في المجتمع في الكثير من كتاباتهم في الصحف ومواقع الانترنت والفضائيات، ولا يقرون بمبدأ التعددية، بل ويضربون بعرض الحائط الاشتراك في اللغة والأرض والتاريخ والدين.
والمطلع على التاريخ، يجد أن تلك المسألة نبذتها جميع الأديان السماوية كالإبراهيمية الموحِّدة، وقبلها الغنوصية والزرادشتية، واعتبرها الغرب العلماني من مؤشرات الجريمة، ومن ثم لزم تجريمها ومساءلة مرتكبيها.
كما أن فرنسا تجاوزت التمييز الطائفي بعد الثورة الفرنسية عام 1789، والتي جاءت لتقضي على التعصب للمذهب الكاثوليكي ضد المذهب البروتستانتي، على يد فولتير الذي نادى بحرية العقيدة ومحاربة التعصب المذهبي من خلال كتاباته وتسخير جهوده الحقوقية لنقد التمييز الطائفي وتجريمه. وقد قام بمحاولة صادقة لسد الطريق على كل ممارسة من شأنها أن تفرز تمييزاً ضد مواطن بمواجهة مواطن آخر، ووضع أسس نظرية المساواة بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات وفرص التعليم والتوظيف والحصول على الخدمات الحكومية، وكان ذلك بداية انطلاقة لإحدى أعرق الديمقراطيات في العالم، والتي ينبغي أن يحتذى بها.
أما وطننا العربي فمنذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا، وهي تمر بتمييز طائفي تزيد حدته حيناً وتقل حيناً أخرى، إلا أنه لا يُقضى عليه، والواقع يقول اننا نمر بأوجه في هذه الفترة. كما أن الدول العربية عموماً لم تنأ بنفسها عن الصراعات الطائفية والتمييز الطائفي أمثال العراق ومصر ولبنان وسورية.
ان موضوع التمييز الطائفي موضوع متشابك جداً، حيث يحمل بعداً سياسياً وتاريخياً ودينياً واجتماعياً، كما يحمل بعداً قانونياً وحقوقياً أيضاً. وعليه لن أتحدث في هذا المقام عن البعد والتحليل السياسي لمشكلة التمييز الطائفي أو البعد الايديولوجي أو حتى البعد الديني، وسأركز فقط على الوجهة القانونية والحقوقية لمسألة التمييز الطائفي وتجريمها.
في هذا الصدد، غالبية الدول العربية وقعت أو صدّقت على المواثيق والاتفاقيات الدولية التي عنت بحرية العقيدة وحرية المذهب ومناهضة التمييز ضد الطوائف، إلا أن توقيعها أو تصديقها لم يلزمها بالنأي بنفسها وبمجتمعاتها وأفرادها عن ذلك التمييز المقيت على أرض الواقع. وقد يكون السبب في ذلك هو عمومية النصوص وعدم وضوح تجريمها، وعدم وجود آلية لترتيب مسئولية أو فرض جزاء لمرتكبيها.
فبمطالعة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نجد أن المادة 18 تنص على ان: «لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين. وهذا الحق ينطوي على حرية تغيير الدين أو المعتقد وكذلك حرية إظهار دينه وإبداء معتقده بمفرده أو في جماعة. وسواء أكان ذلك جهاراً أم خفية وذلك بالتعليم والممارسات والتعبد وإقامة الشعائر». وجاء بالمادة 18 من العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: «لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين. ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة».
كما نصت المادة 5 من الاتفاقية الدولية لمكافحة جميع أشكال التمييز العنصري على ضمان حق كل إنسان دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الأصل في جميع الحقوق كالاشتراك في الحكم وفي إدارة الشئون العامة على جميع المستويات وتولي الوظائف العامة وما إلى ذلك.
ونصّ قانون العقوبات البحريني بالمادة 172 على ان: «يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين وبالغرامة التي لا تجاوز مئتي دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين من حرّض بطريق من طرق العلانية على بغض طائفة من الناس أو على الازدراء بها، إذا كان من شأن هذا التحريض اضطراب السلم العام».
وقد جاء بالدستور البحريني بالمادة 22 ما يحمل مفهوم تجريم التمييز الطائفي بالاعتداد بحرية العقيدة والضمير، فهل تلك النصوص كافية للقضاء على مشكلة التمييز الطائفي؟ أم اننا بحاجة لقانون خاص متكامل بتجريم كل ما هو متعلق بالتمييز الطائفي؟ وبمن يرتبط بالقضاء على تلك المشكلة واجتثاثها من جذورها؟ وهل هي مرتبطة بسياسة دول ونظام حاكم؟ أم متعلقة بإرث تاريخي توارثه الأفراد أنفسهم؟ أم ان الأمرين مرتبطان ومكملان لبعضهما؟
ونحن نقول ان المشرع الكويتي حسناً فعل عندما سعى حثيثاً ومازال سعيه قائماً، لإقرار قانون لحماية الوحدة الوطنية والذي يتضمن فحواه عدم التمييز في الحقوق والواجبات العامة بسبب العرق أو اللون أو الدين أو الطائفة أو المذهب. كما تضمن نصوصاً تحمل الجانب الوقائي والعقابي، من بينها تجريم التمييز والاعتداء على المذهب قولاً أو فعلاً أو من خلال شبكات التواصل الاجتماعي أو ما شابه عند انتهاجها لأية وسيلة من شأنها الازدراء أو اهانة طائفة ما، كما رتبت جزاءً وفرضت التغليظ في حال العود للفعل ذاته، ونتمنى أن يحذو المشرع البحريني حذوه.
هذا وأرى أن القضاء على التمييز الطائفي يبدأ من الأفراد، بدايةً بالفكر الطائفي، ومن ثم التخلص من السلوكيات والممارسات الطائفية، وينتهي بالدول من خلال دورها المحوري في ترتيب المسئولية والمحاسبة والرقابة والجزاء على رموز وعناصر الطائفية.
ومن بين أهم الحلول التي تقع على عاتق الأفراد الابتعاد عن السب والقذف عن طريق الإعلام الرسمي بوسائله المرئية والمسموعة، الإيمان بمسألة التعددية، وما يترتب على التعددية من الاشتراك في الموارد والمساواة في الحقوق والواجبات، وذلك كله تماشياً مع الحفاظ على العلاقات الإنسانية بين الطوائف في المؤسسات الاجتماعية وقبول الآخر مع الإيمان باختلافه.
أيضاً، على المنتديات وشبكات التواصل الاجتماعي، أن تقلع عن خيار التفاعل الاجتماعي ذي البعد الواحد، وتجعل التحاور فيها ذا نفع متعدد، وأن يندمج أفرادها في نسيج اجتماعي واحد، من مختلف المذاهب، والابتعاد عن سياسة إلغاء الآخر.
أما مسئولية الدولة، فهي مسئولية مفصلية في هذا الشأن. عليها أن تتذكر ما كان يقوله برتراند راسل: «يمكن للحكومة أن تتواجد بسهولة دون قوانين، لكن القانون لا يمكن أن يوجد دون حكومة». على الدول العربية والإسلامية، أن تبادر بشكل سريع، وبمزيد من العزم والحزم في التعامل مع الموضوع الطائفي كأولوية قصوى لا أن تتجاهله، فضلاً عن أن تستغله لدواعٍ سياسية. كما أن عليها أن تشرِّع ما يلزم من القوانين والأنظمة التي من شأنها أن تجرِّم كل ما له صلة بالمسألة الطائفية ومساءلة مرتكبيها.
وأخيراً... أخلص لبعض الاقتراحات التي قد تساهم في الحد من مسألة التمييز الطائفي...
1 - سن قانون متكامل يتضمن تجريم كل فعل وعقاب كل مواطن يمارس التمييز الطائفي. فلا يمكننا أن ننهي التمييز الطائفي من فضائنا الاجتماعي والوطني، إلا بوجود منظومة قانونية متكاملة، تتعامل مع كل أشكال التمييز الطائفي باعتبارها جرماً يعاقب عليه القانون، وتصون ركائز الوحدة الوطنية.
2 - تنقية المناهج التعليمية والتربوية والمنابر الإعلامية من كل العناصر والقضايا التي تبث الكراهية الدينية والمذهبية. فلا يمكننا أن ننهي المشكلة الطائفية من واقعنا، إلا بإنهاء المصادر الثقافية والإعلامية التي تغذي هذه المشكلة وتمدها بالأسباب والمبررات. لذلك نحن بحاجة إلى جهد وطني حقيقي لتنقية كل المناهج الدراسية من كل المفردات التي تطعن في المذاهب الإسلامية الأخرى، أو تطعن في عقائدها ورموزها التاريخية. فتنقية مناهجنا التربوية ووسائل إعلامنا من كل المفردات الطائفية، هي خطوة ضرورية لإنهاء المشكلة الطائفية من فضائنا الاجتماعي والوطني. فلا يمكن أن يسود الأمن ونحن نبث أو نسمح ببث ثقافة تدعو وتشجع على المفاصلة العملية والاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد.
3 - بناء ثقافة وطنية جديدة، قوامها الوحدة واحترام التعدد والتنوع بكل مستوياته وصيانة حقوق الإنسان.
4 - إنشاء هيئة مستقلة ومحايدة، تتضمن جانباً رقابياً ووقائياً، كما أنها تقبل شكاوى المواطنين أفراداً أو مؤسسات، ضد من يحاول زعزعة الوحدة الوطنية أو يسعى للتمييز الطائفي بأية وسيلة كانت. كما تتضمن آلية لترتيب جزاء على من يحاول المساس بأي شكل من الأشكال بالتعددية المذهبية.
قد يرى البعض أن تلك الاقتراحات تحمل قدراً كبيراً من المثاليات أو المبالغة بتصوير حاجة المجتمع، لكنها في الحقيقة أقل ما يُمكن أن تعالَج به مسألة التمييز الطائفي، وخصوصاً أننا نعيش في الجانب الشرقي من العالم، وهو الجزء الذي يكتنزه التنوع الطائفي، والانغماس في الانتماءات الفرعية، وبالتالي هو أرض خصبة لأن يتداعى لأي رايات فتنوية قد تظهر، مرةً باسم الدين ومرةً أخرى باسم السياسة، وربما الأزمات التي يمرَّ بها العالم العربي حالياً، تعطينا مقاربةً بشأن ذلك القول. وبالتالي فإن ازدهار الدول في الشرق وتطورها، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمان الاجتماعي، وإشاعة ثقافة السلام والتصالح وحب الناس التي لن تكون دون القبول بالتعددية المذهبية وتجريم التمييز الطائفي.
ونختم بقول الحكيم والفيلسوف الصيني لاوتسي حين نصَحَ أتباعه مرةً قائلاً: «أنا خيرٌ للأخيار، وخيرٌ لغير الأخيار، وبذلك يصير الناس جميعهم أخياراً». فالشر والطائفية وجهان لعملة واحدة.
إقرأ أيضا لـ "نفيسة دعبل"العدد 3593 - الأحد 08 يوليو 2012م الموافق 18 شعبان 1433هـ
شكرا على هذا الموضوع لقد افادني كثيرا في بحثي
الطائفيه
طلما ان المسلمين تخلو عن دينهم الذي يدعو للشوري واتجهو للد يمقراطه االغربيه التي تدعو الى فصل الدين عن السياسه والتي من اهدافها تكريس الحزبيه والطائفيه والمثال لبنان سوريا العراق والنظام الملكي افضل من الجمهوري للدول الاسلاميه
إذا أردنا أن نعرف ماهو التمييز
إذا أردنا أن نعرف ما هو التمييز فلنقرأ ما يكتب عنا وإذا قرأنا ما يكتب عنا سنعرف ما هو التمييز وبعدها نطالب بالتمييز هذا إذا لقينا آذان صاغية.
أو إذا ما قلبت علينا الطاولة!!!!!!!!!!!
لا فائدة من التنظير طالما العكس في التطبيق
كل ما نراه في هذا الوطن هو عكس ما هو مكتوب في الدستور والقوانين التشريعية وغيرها.
ما على الارض مخالف تماما لما كتب من قوانين دستورية وتشريعية لذلك نحن كمواطنين نتخوف من اي تشريع ايا كان فإن العكس في تطبيقه.
اصبحنا نعيش واقع عكس ما قنن
اذا اردنا انهاء التميز انهاء هذه الحكومه الفاسدة
لا يمكن احلال العدالة الاجتماعية او وضع قوانين تجرم التميز تحت حكومة من طيف واحد وبرلمان من طيف واحد وملك وحاشيته من طيف واحد يجب ان تعاد هيكلة الدولة لتصبح دولة وبعده وضع قوانين الى هذه الولة