شكلت ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 في مصر استمراراً لتراث مصري أساسه الخروج إلى الشارع من أجل التقويم والإصلاح، فقد سبق للمصريين القيام بثورات وحركات إصلاحية ودستورية على مدى عقود القرن العشرين. المصريون ثاروا بقيادة سعد زغلول 1919 ومع النحاس باشا العام 1935، وفي الأربعينات عبّروا عن احتجاجاتهم واستمروا كذلك في حقب مختلفة منذ انقلاب 1952. في كل حركة وثورة وتعبير صاخب طالب المصريون بحقوق وبإصلاحات وبحلول لمشكلات مصر. ما حدث في 25 يناير مثَّل تتويجاً لتاريخ مصري مليء بالتمرد على أخطاء الأنظمة التي حكمتهم. لقد استنتج نظام مبارك منذ آلت إليه الأمور العام 1981 أن سكوت الناس علامة رضا وأن القوة كفيلة بإرهاب المعارضين من المصريين. وفي هذا أخطأ في فهم طبيعة الشعب المصري.
وعلى رغم التعرجات الكثيرة التي مر بها المجتمع المصري منذ ثورة 25 يناير وحتى انتخاب محمد مرسي رئيساً فقد أصبح للثورة المصرية بنية تحتية تحرك مطالبها وتعمق إصرارها. وفي الوقت نفسه تكونت البنى الفوقية للثورة المصرية من التيارات والقوى والأحزاب والقيادات المتنافسة والتي تتفاعل بدورها مع تلك البنى التحتية المتدفقة. والملاحظ أنه عندما تسيطر التنافسية السلبية بين القوى السياسية المصرية فإن حالة من اليأس والتشرذم تعمّ البلاد، ولكن حالة التفاؤل تتعاظم بمجرد سعي الثورة للتوحد مع بناها التحتية التي ساهمت في تكوينها.
ويكتشف الثوريون المصريون الذين صنعوا تجربة الميدان أن المرحلية والحلول الوسط بين عناصر الثورة أمر ضروري لنجاحهم، فهذه هي الطريقة التي تبقي الحلفاء والأطراف المترددة إلى جانبهم أو على الحياد. ومن الطبيعي أن يكتشف الثوار بالممارسة أن مرحلة ما بعد الثورة أصعب من مرحلة الثورة وأن الشعب الذي يقف معهم سينتقدهم عندما يضيعون بوصلتهم.
وقد تميزت مرحلة ما بعد الثورة بوجود قوى مضادة للثورة تقف بالمرصاد لقوى الميدان. لهذا فإن تصويت 48 في المئة من المصريين في انتخابات الرئاسة المصرية للفريق أحمد شفيق دليل على تخوف الجماهير في مصر من غياب الأمن والاستقرار وتخوفهم في الوقت نفسه من استمرار حالة التدهور الاقتصادي. جمهور الفريق شفيق كان أساساً خليطاً غير متجانس من جمهور الاستقرار الذي يخشى من دولة الفقه والتدخل في حريات الناس ومنع الإبداع، لكنه احتوى أيضاً على جمهور النظام القديم الهادف إلى ثورة مضادة على الثورة.
من جهة أخرى، شكل انتخاب محمد مرسي القيادي «الإخواني»رئيساً لمصر تعبيراً عن وصول جناح من الثورة وبنيتها الأساسية إلى موقع القرار. من حسن حظ مصر أن مرسي جاء رئيساً، فالحالة المصرية قابلة للانفجار لو جاء وجه من النظام السابق مهما كان هذا الوجه قابلاً للتجدد. هذا قانون الثورات: الوجوه القديمة تشعل الثورات وتحرك بناها التحتية الكامنة بينما مجيء وجوه جديدة إلى سدة القرار ممن سبق لها أن ساهمت في الثورة والمعارضة يؤدي لتهدئة الأوضاع وإعطاء مساحة للتفاعل الإيجابي.
إن ما وقع في الأيام الأخيرة أضاف عاملاً جديداً إلى المعادلة الثورية في مصر، فقد دخل الإسلام السياسي من أوسع الأبواب إلى إدارة وقيادة أكبر دولة عربية. الإسلام السياسي ممثلاً بتيار «الإخوان المسلمين» بدأ يتحمل مسئولية التعامل مع نقل مصر إلى حالة جديدة. هذا التحول سيفرض على الإسلام السياسي رؤى تجديدية. مصر ستتغير حتماً، لكن الإسلام السياسي هو الآخر سيتطور ويتعمق وسيكون أقل تركيزاً على الأيديولوجية والشعار وأكثر سعياً للإنجاز والتعلم من الآخرين. في هذا سيجمع الإسلام السياسي الجديد بين الهوية التاريخية وبين الحداثة والمعاصرة وفق ظروف مصر.
وتمثل مقدرة مرسي على حشد الأطراف وراء رؤيته ووعوده والحصول على تعاون قوى مختلفة فاعلة تسعى لتحقيق أهداف الثورة مدخلاً إلى نجاحه في الفترة المقبلة. والواضح أن الشعب المصري وروح الميدان ستساند الرئيس وتسعى لتعزيز صلاحياته المنقوصة وربما تعيد المجلس المنتخب كما يطالب مرسي. سيستمر التساؤل عن مدى استعداد المجلس العسكري لقبول تقليص صلاحياته وخاصة أنه يسيطر على 30 في المئة من اقتصاد مصر. لهذا فإن شخصية الرئيس ستؤثر كثيراً في دوره. إن رؤيته وسلوكه السياسي سيحددان المستقبل.
لقد شكلت سلسلة خطابات محمد مرسي الأسبوع الماضي في ميدان التحرير وفي جامعة القاهرة خير تعبير عن تحركات الرئيس القادمة. فقد بذل مرسي في كلماته جهداً واضحاً ليرتقي إلى اللحظة التاريخية التي وضعته في موقع الرئاسة. إن تركيز مرسي في كلمته على قيمة الجيش المصري وأهميته وضرورة عودته في الوقت نفسه إلى الثكنات وحديثه عن السلطة المدنية والحقوق والعدالة وعن الاستقلال ودولة القانون والحريات والانتقال الديمقراطي وعدم السماح بالتدخل في شئون مصر، كل هذه تمثل عناوين رئيسية للمرحلة الراهنة في مصر. إن قسم محمد مرسي كرئيس أمام الميدان، قبل قسمه أمام المحكمة الدستورية، يمثل إشارة واضحة إلى طبيعة التواصل بين روح الثورة وبنيتها التحتية من جهة وبين الرئيس الجديد من جهة أخرى.
الأهم في فوز مرسي أن الثورة لم تعد مقتصرة على الميادين، فهي الآن بالإضافة للساحات العامة أصبحت ممثلة في المؤسسة الحاكمة، وهذا يجعلها قادرة على التفاوض مع المجلس العسكري والقوى المحيطة به بما يخدم التحول الديمقراطي وتسليم السلطة للمدنيين. إن ثورة مصر محاصرة طالما لم يصل الثوار إلى السلطة بمعنى أشمل وأعمق، وطالما لم يعد العسكر إلى ثكناتهم. لكن عودة العسكريين إلى الثكنات ستتطلب مرحلية في العمل والكثير من التفاوض على شروط الانتقال. وقد يستطيع مرسي بناء توافق مع المجلس العسكري على صيغة لتعديل الإعلان الدستوري المكمل بما يتفق مع توسيع صلاحيات الرئيس. الفترة المقبلة فترة توافقية وتفاوضية إلا أنها لن تخلو من مواجهات وصراع وامتحان قوة بين روح الميدان من جهة وبين قوى النفوذ التي يمثلها المجلس العسكري من جهة أخرى. مازالت مصر في مرحلة الخطر متأرجحة بين إجهاض الثورة لصالح نموذج باكستاني مفكك وبين نموذج تركي تنموي وديمقراطي.
فرص نجاح الرئيس الجديد أكبر من فرص فشله، لكن أمامه مسئوليات كبيرة في مقدمتها إنجاز دستور جديد للمصريين يعبر عن واقعهم ويؤمن لهم العدالة بينما يثبت بينهم حالة التنوع الثقافي والديني والإنساني التي تميز المجتمع المصري. وأمام الرئيس الجديد في الوقت نفسه مسئولية التعامل مع الاقتصاد المصري والبطالة والدين المحلي والفوائد التي تدفعها الخزينة المصرية على هذا الدين. وأمام الرئيس تحديات اجتماعية في ظل وجود طبقات شعبية مسحوقة وطبقات وسطى مهمشة. مستقبل مصر يتحدد من خلال اكتشاف كيفية نقل مصر من دولة متخلفة إلى دولة منتجة نامية وعادلة وديموقراطية تخضع مؤسساتها العسكرية لمؤسساتها المدنية المنتخبة بينما يتمتع شعبها وأفرادها بالكرامة والحريات والحقوق.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 3590 - الخميس 05 يوليو 2012م الموافق 15 شعبان 1433هـ
تحليل رائع للواقع المصري
الله يوفق مصر وثورة مصر والرئيس مرسي.. وانشاء الله تنهض مصر على يديه كما حصل في تركيا على يد أردوغان وحزبه..