يدرك أيٌّ منَّا معنى أن يكون خارج المعنى. أن يكون محصوراً ومحشوراً في التفاهة كما يُراد له. حين يكون الإنسان تافهاً يفقد تصنيفه أساساً، لا يعود إنساناً، إنه قصة أو غصّة بشكل أو آخر.
يدرك أيٌّ منا معنى أن تُقلّم أظافره، وأن يُصادر صوته، وأن يكون رهناً للخوف والوجل واليأس من المستقبل، أو حتى حضور خياله، يُدرك أيٌّ منا معنى أن يكون لا شيء. أن يكون عنوان ومضمون العدم وما بعده؛ إن كان للعدم بعد!
ذلك ما يُهدّد استقامة الحياة وطبيعتها، وذلك ما يجعل منظّري الفرص والصُدَف يتسيّدون المراحل، ويتحكّمون في كل مفصل من مفاصل الحياة وتفاصيلها، وما بعد تلك التفاصيل.
القيم الراسخة لا يصنعها العابرون في منظومة الأخلاق والقيم والتصدّي لشئون الناس وقضاياهم؛ تماماً كما الأنهار لا يمكن أن تستند إلى الصُدْفة في عبورها إلى الأطراف، ولا يمكن أن تكون وليدة صدفة في انتمائها إلى المنابع.
الحياة عموماً، لم تقم على الصُدْفَة كي يقترح أو يفرض أحدهم على الحياة نفسها المسار الذي يجب أن تتبعه، والأسلوب الذي يجب به أن تسود وتتحكّم.
الصُدْفَة التي لا نؤمن بها، ولا يمكن أن تخطر على بال من هو مشغول بمعادلات ونظام الحياة نفسها، وأيضاً نظام وجود المنتسبين إليها، لا تستطيع أن تنتشل نفسها وأصحابها من لحظة وتخيّل كذاك؛ وخصوصاً في المآزق والكوارث واللحظات الحاسمة والحرجة، والتي بالطبع لن تكون شحيحة ونادرة في هكذا افتراض لن يعود كذلك في ما نرى.
ثم إن الصُدَفَ لا تنجب حقائق وثوابت على الأرض، ولا تتمخّض عنها قيم في الوقت نفسه، هذا إذا تم اعتماد وجودها وحضورها وتحكّمها ولو في اليسير والعابر من تفاصيل حياتنا. لا شيء من ذلك أساساً حتى في وهْم اليسير.
ما يصنع الحياة ويتصدّى ويواجه مشكلاتها وأزماتها هو التصدّي بواقعية الأدوات والحضور والنظر المقيم في ما يحدث حوله من حركة وتفاصيل؛ بغضّ النظر عن اتفاقه واتساقه معهما.
وبالعودة إلى تقليم الأظافر ومصادرة الصوت والأحلام أيضاً، لا يمكن الحديث عن معادلة بين طرفين: طرف يَحكُم وطرف يُحْكَم، حين يستأثر طرف، ويوجَّه ويُصَادَر ويُؤمَّم طرف وأساس حضور لهيمنة وحساب طرف آخر.
الشرق علَّم الدنيا؛ وخصوصاً مع هيمنة الأنظمة الاستبدادية أن تنأى عن نماذجه المعطّلة أساساً للحياة، وتكون على تقاطع وقطيعة مع نماذج الاستبداد تلك؛ لأنه ليس النموذج الذي يصنع الحياة، ويراكم قيمتها وخبراتها بالممارسات المعاينة والحاضرة؛ بقدر ما هو النموذج الذي على النقيض من الحياة ومشروع إرجاعها إلى أحطّ مراحلها والتخلف الذي هو متوغل فيها.
لم يعد الشرق مصدر إلهام روحي افتقده الغرب في مرحلة من مراحل تكوينه وتطوره، في ظل ضجيج إنجازه، وإمعانه في تغليب المادة وهيمنتها على تفاصيل الحياة توغلاً وتكريساً. هو الآن (الغرب) مصدر لتجنّب النقيض: الاستبداد، الظلامية، الاجتثاث، تفريغ الخزائن، وتفريغ البشر من كرامتهم وقيمتهم.
لم يعد الشرق «اختراعاً أوروبياً» بحسب المصطلح الذي قعّد له المفكر والبروفيسور العربي، الأميركي الجنسية إدوارد سعيد، وهي رؤية تنأى عن أطروحاته في موضوعة الاستشراق من حيث المبحث الذي أوغل فيه وأسس له.
وما عمّق من إلغاء ونسف مصدر الإلهام ذاك هو طبيعة الاستبداد في أطواره المتقدّمة والقابلة للتحديث؛ وما أنتجه من نشوء أصوليات ذهبت في ذروة عنفها وتفسيرها وتعاطيها مع الغرب وتكريس قطيعة في العلاقات معه في صور وشواهد لم تكن أحداث 11 سبتمبر/أيلول2001 آخر الصور والشواهد. قطيعة مع سراب الطمأنينة والعمل على تكريس وتجذير كوابيس؛ علاوة على استعباد البشر في الحيز المعنيّ ومصادرة الحياة وجعلها ملكاً خاصاً؛ أو رصيداً في مصارف خارج الحدود.
المشكلة ليست في نظرة الغرب إلى الشرق بطبيعة ما يرصده والمقارنات التي تبرز في البوْن الشاسع بين الإنسان هناك والإنسان هنا؛ بل في نظرة مواطن الشرق نفسه لواقع حاله في ظل امتهان كرامته والاجتهادات التي لا تنتهي في محاولة لنسف كل قيمة وهدف لإنسان هذا الجزء من العالم؛ وتلك أم الكوارث فيما يحيا.
أعيد طرح التساؤل بشكل غير موارب وصريح: قبل نظرة الغرب، ماذا عن نظرة المواطن في هذا الشرق الذي لا دليل يؤشر إلى مواطنته؟
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 3584 - الجمعة 29 يونيو 2012م الموافق 09 شعبان 1433هـ
مفال رائع
شكرا استاذة على هذا المقال الرهيب نحن بحاجة لهذه اللغة كي نرتقي بعقولنا لغة رصينة وفكرة جميلة تذكرني بتغريداتك الجميلة لا حرم الله الوطن من قلمك
سؤال يحيرني
رغم انغماس الغرب في الماديات وغياب الروحانيات في مفاصل حياته اليومية لكن الغرب هو الذي انتج الخبراء في التقنية بل كل يوم نستيقظ على تطور جديد في الاتصالات والتقنية هذا عدا عن مايخفيه الغرب عنا من تطور في الأسلحة واجهزة المراقبة التي يحتلنا بها ويهددنا بها في كل وقت، فأين الخلل في المعادلة؟ ماذا نفعل لنصبح روادا وليس مستهلكين ومتهافتين على شراء تقنية الغرب واستجلاب الخبرات من عندهم؟ متى نعتممد على أنفسنا ونحترم قدراتنا وعقولنا؟
مقال جميل وواقعي
شكرًا للسيدة الكاتبة على هذا المقال الرصين ... رغم خبرتي بالكتابة والعمل الصحافي لكن هذا المقال وصلني وافادني.