في الوقت الذي تتركز فيه أنظار العالم الغربي على التطورات المتسارعة في العراق، والتأزم الحاصل في الأراضي الفلسطينية، يقوم «فلاديمير بوتين» بخطوات من أجل تأمين ولاية ثانية له على رأس السلطة في روسيا. ولا يتوانى رجل المخابرات السابق من أجل تحقيق هذا الهدف عن استخدام جميع الوسائل، بما فيها ضرب وملاحقة من يعتقد أنهم قد يعملون ضد عودته. فلم يستثنِ أحدا بمن فيهم رؤساء كبار المجموعات المالية والاقتصادية في البلاد، حتى ولو أدى ذلك إلى تشويه سمعة موسكو في الخارج. لقد نجح «بوتين» حتى اللحظة في تنفيذ مخططه، ولكنه مع ذلك يحتاج إلى عصبة «السيلوفيكي» المكونة من كبار الجنرالات وقيادة المخابرات والقضاء، الذين بدأوا يطالبون بالمزيد من الحصص ليواكبوا صعوده.
في الوقت الذي أصبحت فيه اقتصادات دول الاتحاد الأوروبي على قاب قوسين أو أدنى من الانزلاق نحو الركود، يعلن الجار الروسي الكبير، بقومية لا تخلو من الخبث، وضعه السليم، مبرزا معدل نمو بحدود 5,8 في المئة بنهاية شهر يوليو/ تموز الماضي، مقابل 6,9 في المئة طوال الشهور الستة الأولى التي سبقت. ويفاخر من جهة أخرى بالزيادة التي حققها إنتاجه الصناعي الذي تجاوز نسبة 7,1 في المئة بسلسلة من المؤثرات الإيجابية الملفتة، في حين توقع الخبراء الاقتصاديون حدوث تباطؤ بدءا من الفصل الثالث من العام الجاري.
توظيف النمو المنتظم
يشار إلى أنه منذ حوالي خمس سنوات وروسيا الاتحادية تشهد نموا قويا ساعدها على إنجاز فائض في الموازنة على مدى أربع سنوات، مكنها من تسديد أجزاء من دينها الخارجي الضخم وخدمته في الأعوام الثلاث الماضية. ما فاق توقعات المؤسسات المالية العالمية. مع ذلك، بقي نجاح الاقتصاد الروسي منقوصا كونه لم يتمكن من السيطرة على التضخم المرتفع البالغ 12 في المئة. كما لم يستطع مواجهة التحدي المطروح على صعيد إعادة هيكلة مؤسساته الصناعية التي تشكو عمليا من كل شيء.
على رغم هذه النجاحات، يحافظ الرئيس فلاديمير بوتين على برودة أعصاب خارقة، رافضا الحديث عن الإنجازات التي حققها في المجال الاقتصادي، الأمر الذي بدأ يزعج الدول الغربية المتعاملة معه، والتي يبدو أنها لم تعد قادرة لا على مواكبة نقلاته، ولا إدراك مراميها. ويرى الرئيس الروسي أن النمو الاقتصادي الذي تشهده بلاده في هذه المرحلة الاستثنائية هو نتيجة لعوامل خارجية وليس عائدا للأداء الخارق للاقتصاد وقطاعاته المختلفة. ويعطي مثالا، ارتفاع أسعار النفط، موضحا أنه يرفض أن تتحول روسيا إلى ادولة ريعية تعيش على إيراداتها من الهيدروكربورات وتنسى الانتاج، الذي من دونه لن تستطيع تجاوز مشكلاتها واللحاق بركب الدول المتقدمة. ويفيد أحد مستشاريه المقربين بأن الزعيم الروسي يشكو يوميا من بطء الإصلاحات، في حين حدد ثلاثة أهداف طموحة لتحقيق قفزة نوعية. ويتلخص ذلك بمضاعفة ناتج الدخل القومي من هنا وحتى العام 2010، ومكافحة الفقر، وتحديث القوات المسلحة والاستثمار في تصنيع الأسلحة المتطورة. هذا الشق الأخير هو الذي - على ما يبدو - يقلق كثيرا من الدول الغربية الأخرى المنتجة للأسلحة، والتي ترى في هذا التوجه عودة إلى لعبة التوازنات الدولية وفق أسس جديدة، وخصوصا بعد أن تعلمت موسكو من دروس وأخطاء الماضي وفهمت أن متانة الاقتصاد وقدرته التنافسية هما أساس السياسات والاستراتيجيات.
فمضاعفة ناتج الدخل القومي خلال فترة سبع سنوات، يعني تحقيق نمو اقتصادي وسطي منتظم بمعدل 8 في المئة سنويا. وذلك علما بأن وزير الاقتصاد - المتخوف من ارتفاع نسبة التضخم وإنهيار «الروبل» - جنح نحو معدلات أكثر تواضعا بحدود 4,3 في المئة. ولكن تطور الأوضاع بإيجابية ملفتة حدا بوزير التنمية الاقتصادية إلى المراهنة على نمو بمعدل 5,3 في المئة للعام 2003، بعد أن كان في حدود الـ 4,3 في المئة سنة 2002. وتبني موسكو خططها للعام 2004 على نمو يصل إلى 5,2 في المئة ليلامس عتبة الـ 6 في المئة في 2005. وتؤيد غالبية الاقتصاديين من الروس هذه التوقعات كون الحكومة قد شجعت في السنتين الماضيتين الشركات المتوسطة الحجم التي تمكنت من لعب دور في تنشيط ناتج الدخل القومي. لكن الشركات الصغيرة بقيت تتحمل لوحدها أعباء بيروقراطية متجذرة مترهلة، ولكنها صاحبة نفوذ في الإدارة الروسية. كذلك، تبعات قطاع مصرفي فاشل، إضافة إلى سلوكيات شاذة قائمة على الرشوة والفساد على المستويات كافة.
ولا يخفي المسئولون الروس خشيتهم من السيناريو القائم، المتمثل برؤية الأميركيين ينجحون خلال فترة وجيزة، باستغلال نقط العراق. ما يعني هبوط سعر برميل النفط دون الـ 15 دولارا. وكذلك عودة الانطلاقة الاقتصادية في العالم وبسرعة. عنصران من شأنهما أن ينعكسا سلبا على الاقتصاد الروسي، ويعودان به إلى المربع الأول بعد تحقيق قفزات مهمة في السنوات الثلاث الأخيرة. يضاف إلى ذلك، الاضطرار إلى رفع معدلات الفوائد، ما من شأنه تعزيز التضخم وتقوية سعر صرف الروبل، الذي سيمتص أرباح الشركات الروسية. ويعتبر الخبراء أنه إذا ما رأى هذا السيناريو النور في المرحلة القريبة، فإن الصعوبات ستسحب نفسها على مجمل المجتمع الروسي، كما حصل في العام 1998. وإذا كان الفائض المسجل حاليا على مستوى الموازنة وكذلك في الميزان التجاري يستثنيان حاليا من ارتفاع أسعار النفط، فإن الاقتصاد المحلي يشكو من عدم التنويع في مصادر الدخل، ذلك لأن المجموعات النفطية قد استثمرت طوال السنوات الأربع من النمو الاقتصادي، وهي قادرة على ما يبدو على تحمل انخفاض الأسعار. ولكن القطاع الصناعي يستمر في الشكوى من قلة الاستثمارات ومعدلات الفوائد العالية.
ويبقى القطاع المصرفي «كعب الخيل» للاقتصاد الروسي نظرا إلى هشاشته وتجزئته. ففي حال حدوث أزمة جدية، هنالك خطر من أن تتبخر السيولة، وتجر معها سلسلة من الإفلاس بالمئات، وتضطر المصارف الروسية إلى تخصيص 10 في المئة من رساميلها على شكل مؤونة بحسب الانظمة التي وضعها البنك المركزي، كي تتمكن من مواجهة الديون المشكوك بتحصيلها. وتشير المعلومات في هذا الصدد إلى ان صندوق النقد الدولي يشتبه بقيام بعض هذه المصارف بتضخيم مصطنع لحجم موجوداتها عبر وسائل حسابية ملتوية. الدليل على ذلك دعوة مدير «ألفا بنك» للسلطات النقدية كي تتدخل بهدف خفض عدد المصارف عبر التشدد في تطبيق القوانين الاحترازية. كما يعتبر أن ثلث رساميل المصارف «وهمية».
من ناحية أخرى فان الاصلاحات البنيوية تبقى ضرورة ملحة في مجال احتكارات الطاقة والاشغال العامة والضمان الاجتماعي مع وجود خمسة ملايين موظف، وان عمل هذه القطاعات كجزر سوفياتية في القرن الواحد والعشرين من خلال الاسعار التي لاتزال تحددها الدولة والمخفضة اصطناعيا في ظل بنيات هرمة متخلفة لا يمكن ان تجعل من روسيا دولة ثنائية في المدى المتوسط.
المعارك مع «الأوليغارسكات»
لم يعد يمر يوم واحد من دون بروز فضيحة قضائية ومالية وحتى جنائية تتعلق برجل اعمال روسي نافذ. بالأمس كان دور «ملك» الاعلام السابق فلاديمير غوسينسكي الذي اعتقل وتم ترحيله إلى موسكو، اذ يلاحق حاليا بتهمة الاحتيال وتبييض الاموال. ولكن منذ نحو شهرين تتضاعف الملاحقات لكن الخطوة الاهم التي تمت في هذا السياق تركزت على المجموعة النفطية «يوكوس» فعلى رغم محاولات السلطات المعنية تهدئة اللعبة وتجنب تخويف اوساط الاعمال الأجنبية عبر قيام وزارة مكافحة الاحتكار الروسية باعطاء الضوء الاخضر لدمج هذه المجموعة بشركة «سيبنيفت» ما ادى الى خلق مجموعة رابعة في السوق، الا ان القرار بتحجيم وتقليم اظافر هذه المجموعات التي بدأت تتحول الى مراكز قوى تضغط على الكرملين قد اتخذ ولا رجعة فيه.
وتفيد المعلومات بان الملياردير بلاتون ليبديف المساهم الثاني في «يوكوس» موجود الآن في السجن بتهمة القيام بعمليات تخصيص مشبوهة. فالمداهمات مستمرة في جميع المؤسسات التابعة للمجموعة النفطية هذه. ولقد تم وضع اليد على وثائق كثيرة سمحت للقضاء باستجواب رئيس مجلس ادارتها الرجل القوي «ميخائيل خودوروفسكي» ولا أحد يدري من الآن وصاعدا الى أي مدى يمكن ان يكون فلاديمير بوتين نفسه متورطا في قضية «يوكوس» حتى اعطى اوامره بتوجيه هذه الضربة اليها، علما بانها تشكل علما من اعلام الاقتصاد الروسي الناجح في العالم على مستوى الإدارة والانتاج. وتتهم اوساط الاعمال في موسكو ممثل اجهزة الأمن في الرئاسة الروسية «فيكتور ايفانوف»، بالوقوف وراء تقديم المجموعة ورجالاتها كما تؤكد انه يدافع عن مصالح كبار الجنرالات في الجيش والمخابرات وقوات الأمن والقضاء، هذا الجسم المتماسك الذي يطلق عليه اليوم تسمية «سيكونيكي» ولا تتردد هذه الاوساط بالتذكير بان غالبية الذي يحتلون المناصب الرئيسية في هذه المؤسسات قد أتوا من «سان بطرسبرغ» ويدينون بصعودهم السريع الى «فلاديمير بوتين» ابن هذه المدينة، ويرى هؤلاء أن المعركة الدائرة بين السلطات السياسية والقضائية عن «يوكوس» لا تفسر بالارادة المعلنة والداعية إلى مكافحة «الجريمة الاقتصادية» نظرا لوجود عدد كبير من رؤساء مجالس إدارات ومجموعات أخرى في الوضع نفسه تماما.
لكن يبدو بحسب خبراء مصارف الاعمال الغربية المتعاملة مع السوق المالية الروسية ان عملية اختيار القوة الدائرة حاليا تتمحور ضمن مجال السيطرة على الثروات الاقتصادية، وذلك بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية المقررة في الاشهر المقبلة. وساد الاعتقاد لدى المراقبين بان الملاحقات التي تمت بحق «يوكوس» كانت تستهدف معاقبة رئيسها القوي الذي حاول دخول حلبة الصراع السياسي عبر دعمه لاحزاب المعارضة الليبرالية، لكن هذه الأخيرة بقيت بعيدة عن منافسة جبهة «روسيا الموحدة» التي تدعم بوتين، فأحزاب المعارضة هذه لا تمثل في نهاية الأمر سوى تهديد متواضع اذا ما قورنت بالحزب الشيوعي الذي مازال يحتفظ بالحد الادنى من قدراته التنظيمية ومن قواعده لذلك تشير استطلاعات الرأي الى ان بوتين سينتخب مجددا وبسهولة وسيحتفظ بغالبية طيعة له في مجلس الدوما.
ويرى المحللون السياسيون ان المعركة المقبلة تدور رحاها داخل محيط بوتين الضيق بمعنى ان هذه الشخصيات النافذة بدأت بالتطاحن وتصفية الحسابات لضمان مواقع نفوذ لها في الولاية الثانية. لذلك كان لابد من ان تدفع المجموعات المؤثرة في صنع القرارات السياسية والاقتصادية الثمن.
فلقد بدأت الملاحقات بوسائل الاعلام الخاصة، وبرجال السياسة وبعض المثقفين من الليبراليين لتصل الى الاوليغارسكات التي تمثل نفوذا ماليا يفوق الحدود المسموح بها داخل النظام الروسي، والتي يمكن ان تهدده جيدا فيما لو لم يتم الالتفاف عليها أو ضربها في الوقت المناسب، هذا ما فهمه بوتين وعمل اساسا لاعبا على التناقضات الموجودة بين جميع مراكز القوى هذه، فرجل المخابرات السابق أدرى بقواعد اللعبة وبحدودها.
وتتهم اوساط الاعمال عصبة «السيلوفيكي» بمحاولة وضع اليد على ثروات البلاد. فعلى رغم وجود اعضائها المكثف داخل اروقة الكرملين وعلى جوانبه فإن سيطرتها على الاقتصاد لاتزال محدودة، كون قوة هؤلاء تكمن داخل شركات القطاع العام الكبرى مثل: «روزنيفت» و«غازبروم». على أية حال فإن المهم بالنسبة إلى جماعة السيلوفيكي ليس العمل على الانتقال الى اقتصاد السوق بقدر التوصل إلى الحلول مكان الاوليغارستين.
يبقى السؤال فيما اذا كان بوتين قادرا أو كانت لديه النية على لجم الضغوطات الآتية من محيطه عشية الانتخابات أقله ايجاد تسوية ما معهم وفق صيغة «لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم
العدد 358 - الجمعة 29 أغسطس 2003م الموافق 02 رجب 1424هـ