قبل سنوات ولهت روح بدوي حد اعتزال من حوله خلوة ببارئه. كان يتجنّب المرور في الأسواق نأياً بنفسه عن نزغ شيطان يعلم أنه يترصّده. ولد بوسامة استثنائية وشبه كمال مبنى ووفرة في المعنى والطهر.
نأى بنفسه زمناً عن الاختلاط بمجايليه خلا دروس ظل عاكفاً عليها في المسجد الذي تولى الإمامة فيه.
نأي أحدنا عمّا حوله والحركة والضجيج اللذين اعتادهما لا يأتي محض مزاج وخاطر يجول في النفس هكذا. له ما يحرّضه ويزيّن له مثل ذلك النأي. كم من ضجيج لا همس ولا روح فيه؟ كم من عزلة فيها كل ألفة ما يريد المرء ويحب ويهوى؟ بعضنا يشتري الوحشة اليوم حين يجول ببصره في خليط متداع من المواقف التي لا تلمس منها حقاً ولا ترتجي منها اصطفافاً مع أصحاب الحق. وحشة كتلك تؤكد فرادة وقتك وزمنك ونفسك في الوقت نفسه. لا تنتظرن كثرة في سلوك طريق حق للناس والقيم. تلك طريق كتب عليها أن تكون مهجورة والعابرون إليها ممسكون بالجمر الذي لا يقواه أحدنا ولو بلحظة ارتداد طَرْف.
لا تملك إلا أن تعود إلى مخزون ثرّ من بلاغة سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، في خطب ظلت ملء سمع الدهر وذَهَب ما تحمله من مضامين من الصعب تجاوزها وعدم الوقوف أمام الرؤية التي تنفذ إلى ما بعد أنفس وقلوب ومشاعر وتوجهات الناس وميولهم: «لا تستوحشْ طريق الحق لقلّة سالكيه».
إزاء معلقات من المصادفات والسهر الذي لا يقيم اعوجاجاً ولا يضيف قيمة، تُرهن حيوات الناس بالمكْر الفائض الذي لا حدّ له. مكْر يُربك ويُخلخل استقرار تلك الحيوات.
الوحشة التي أعني؛ ليست تلك التي تمسّ الحيّز الشخصي لأي منا ومحن قلبه فحسب؛ بل تمتد وتتطاول في المفترقات الصعبة وتتراكم حين يكون كل منا صحواً قلبه، أمام قتل وإذلال هما بمثابة مُزاح بالنسبة إلى الذين يمارسونهما؛ فيما الحياة تذهب إلى الدرجة القصوى من احتقانها وقابلية انفجارها والدخول فيما يشبه عدمها.
يذهب البشر أحياناً إلى عزلتهم ووحشتهم إما مختارين وإما مرغمين. القوة في أن يذهب إليها أي منا بخياره، والذي هو من دون شك صعب؛ لكن الأصعب على روح أي منا؛ وخصوصاً أولئك الذين لم تمسسهم لوثة التكتلات المريضة والتمصلح المَرضي في أكثر من خلوة يتم إعدادها هناك أو هناك، ألاّ تسلك ذلك المسلك الذي تخشاه وترتاب منه.
تذهب إلى وحشتك حين تكون الألفة مصطنعة ولا روح فيها. ألفة وقت عابر ومكان عابر وبشر عابرين. والعابر لا يلزمك في تأمل وموقف هما بمثابة الجمرة التي تصليك.
تسعى المراحل برجالها إلى اصطياد أرواحنا ومواقفنا كما يتم اصطياد غزلان في بريّة ملغّمة بالكلأ والماء وهي في جنتها التي تتوهّم واطمأنت إليها، ثمة قنّاص في الطرف الآخر من التواري يمنّي نفسه انتزاع روحها بما أوتي من أدوات النزع تلك.
نذهب في تفرّس وجوه وملامح وأشكال ما حولنا؛ وخصوصاً الوجوه التي كنا نظن أن مأمننا في الركون إليها والاطمئنان إلى أرواحها التي كنا نتوهم أيضاً أنها أرواح فيما هي ضالعة في الحديد وموهبة الرماد.
نذهب حد الاطمئنان أيضاً بوداع وحشة أقامت وتغلغلت حد امتصاص ماء أرواحنا؛ لكننا لا نفاجأ بطاقتها على غوايتنا والاستدراج، وتركنا نهباً لحواف وهاويات وعراء لا نهاية له.
لا أحد منا يريد العبور إلى الطرق التي يتيقن أنها ملغمة بالفخاخ والمكائد؛ لكنه من قال، إن الذين يزرعون فخاخهم ويسهرون على مكائدهم سيتركون لنا ذرة يقين من المواضع التي انتخبوا والهيئات الخادعة التي تواروا خلفها؟ الوحشة التي أعني، مخاطبتك للغائب الذي تتمنى حضوره، ونأيك عن حاضر وحضور ترى فيه الغياب كل الغياب. تلك غربة تفتُّ العظم وتهرس ما كنت تظنه عصياً على الهرس.
الوحشة التي أعني، هي بحثك عن ألفة هي توأم روحك الغائب، وفضاؤك الذي تبحث عنه، وجدواك في هذه الحركة والضجيج من حولك؛ ذلك الذي لم يمس شيئاً من رهافة روحك على رغم توهمه أنه في الصقيل من كل رهيف.
والألفة التي أعني أن تكون مستعداً لزوالها من دون أن تستوحش وتشعر بمرارة غيابها. لست رهناً للألفة في كل مسارات ودقائق حياتك. هي رهن لك. أنت من تصنعها وتربّيها. هي وإن صنعت وربّت فيك ما يؤنسك ويوازن علاقاتك بمن وما حولك؛ فإنها ليست شوطك الأخير الذي تقطع ومرامك الذي تقصده.
يمكن للوحشة أن تتحول إلى سراج يقودك إلى ما تطمئن روحك للركون إليه وألْفته. يمكن للألفة أن تتحول إلى ديجور وعاهات وصدمات تنزع منك ما تظنه يقيناً وثابتاً. لا شيء يمكن الركون إلى ثباته واستقراره. أنت من يمنح الثبات والاستقرار لكل ذلك بحسن وحس خيارك. خيارك في انتخاب الوحشة في ظل ألفة زائفة؛ أو انتخاب الألفة التي ترى من دون فخاخ وكمائن.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3579 - الأحد 24 يونيو 2012م الموافق 04 شعبان 1433هـ
مقال اكثر من رائع
سلمت يداك ! مقال قلب المواجع والاشجان.. كم من غائب حاضر تتوق النفس لملاقاته وكم من حاضر غائب. ما اصعب الوحدة واشد الوحشة بين الناس