للهجرة كجزء من أزمة مشروع النهوض والحداثة العربي، لا يوجد بلد عربي إلا ويعاني من هجرة كثير من عقوله وكفاءاته العلمية للخارج... إما للدراسة والتحصيل العلمي العالي، أو للعمل في مختلف حقول البحث العلمي المتعدد والمتنوع من الطب والهندسة والفيزياء وعلوم الذرة وغيرها...
وتقول الإحصائيات إن أكثر من ثلث الكفاءات العلميّة انتقل من إفريقيا إلى أوروبا في عقد الثمانينات من القرن الماضي، وإن كندا والولايات المتحدة هما من أكثر الدول انفتاحاً وقبولاً واستيعاباً لتلك العقول والكفاءات العربية المهاجرة، وقد قبلتا خلال الفترة الواقعة ما بين العامين 1960 و1990 أكثر من مليون مهاجر مهني وفني من مختلف الدول النامية ومنها دولنا وبلداننا العربية التي تعج ولا شك بآلاف مؤلفة من المبدعين والمخترعين والمكتشفين والعقول النيرة.
وإذا ما حاولنا إعطاء إحصائيات أكثر دقة عن موضوع هجرة العقول العربية للخارج، فإننا سنجد صعوبة بالغة ولاشك بسبب عدم قيام أية دولة عربية بواجبها على هذا الصعيد، ولكن بالعودة إلى ما سجله أنطوان زحلان (وهو بالمناسبة من أهم وأبرز المتابعين والموثقين لموضوع هجرة الكفاءات العربية منذ الستينات من القرن الماضي) يمكن القول بأن أكثر من نحو 70 ألفاً من أصل 300 ألف من حملة البكالوريوس والماجستير من العرب في العام 1995/1996 قد هاجروا، وأنّ عدد المهاجرين من الأطباء العرب العام 2000 فقط بلغ نحو 16 ألفاً.
ووفق زحلان، يبلغ عدد حملة الدكتوراه العرب في الخارج 150 ألفاً، أي ما يعادل ربع حملة الدكتوراه في الولايات المتحدة وثلاثة أرباع حملة الدكتوراه من العرب. أما أصحاب المهن الطبيّة الذين هاجروا إلى أوروبا فقد فاقوا الـ 15 ألفاً بين 1999 و2001.
وإذا أخذنا في الاعتبار عدد الطلاّب العرب الذين يدرسون في الخارج والذين لا يعودون إلى أوطانهم في الغالب، لأمكننا تقدير الحجم الكبير لهجرة الكفاءات العربيّة، ففي 1996 كان 179 ألف طالب عربي يتابعون دراستهم العليا في الخارج.
وعلى صعيد ترتيب الأقطار العربيّة، يمكن اعتبار مصر وبعدها لبنان وفلسطين والأردن الأكثر تصديراً للكفاءات العلميّة، ووفق بعض المعلومات المتداولة، فإن أكثر من مليون وربع مليون عالم عربي موجودون في الخارج، بينهم 800 ألف مصري.
ووصلت تحويلات الكفاءات العلميّة العربيّة العاملة في الخارج إلى نحو 25,2 مليار دولار العام 2006م، وهي تحويلات زهيدة قياساً بالخسائر التي يتكبّدها العالم العربي نتيجة هجرة هذه الكفاءات، والتي تقدَّر في بعض الإحصاءات بـ 200 مليار دولار سنوياً، وفي بعض التقديرات قد تعادل قيمة الطاقة الذهنيّة العربيّة التي تحصل عليها الولايات المتحدة وأوروبا من دون مقابل قيمة النفط والغاز العربيّين.
وتشير تقارير أصدرتها كل من الجامعة العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة (عبر تقارير التنمية الإنسانية العربية)، إلى وقائع وأرقام عن هجرة العقول العربية إلى الخارج. وتشدد هذه التقارير على كون المجتمعات العربية باتت بيئة طاردة للكفاءات العلمية.
وتشكل هجرة الكفاءات العربية ما نسبته 31 في المئة مما يصيب الدول النامية، كما أن هناك أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو من الفنيين المهرة هاجروا للخارج وهم يعملون في الدول المتقدمة، بحيث تضم أميركا وأوروبا أكثر من 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقرير مؤسسة العمل العربية.
كما تؤكد هذه التقارير أن ما نسبته 5.4 في المئة فقط من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج يعودون إلى بلادهم فيما يستقر الآخرون في الخارج. ومن الأرقام ذات الدلالة أيضاً أن 34 في المئة من الأطباء الأكفاء في بريطانيا ينتمون إلى الجاليات العربية (حالة الدكتور والعالم المصري مجدي يعقوب، خبير وجراح القلبية الأشهر في العالم)، وإن مصر وحدها قدمت في السنوات الأخيرة نحو 60 في المئة من العلماء العرب والمهندسين إلى الولايات المتحدة، فيما كانت مساهمة كل من العراق ولبنان 15 في المئة... كما وشهد العراق ما بين 1991-1998 هجرة 7350 عالماً تركوا بلادهم بسبب الأحوال السياسية والأمنية الضاغطة ونتيجة الحصار الدولي الذي كان مفروضاً على العراق آنذاك.
هذا وتشير هذه التقارير إلى عمل قسم واسع من العقول العربية في اختصاصات حساسة في بلاد الغرب: مثل الجراحات الدقيقة، الطب النووي، الهندسة الإلكترونية والميكروإلكترونية، والهندسة النووية.
من هنا يمكن القول وبكل تأكيد وحسم أن تسرب واستنزاف العقول المبدعة في الدول المتخلفة من الناحية السياسية والاقتصادية هي أكبر تحدٍّ تواجهه تلك الدول التي لم تضع قدمها بعد على طريق التطور العلمي على صورته الصحيحة التي تبدأ منذ مراحل الدراسة الأولى عندما يدخل التلميذ إلى مقاعد دراسته الابتدائية ليجد المدرسة والسكن المدرسي الصحي الملائم، والمنهاج المناسب والمعلم الخبير، مروراً بالدراسة المتوسطة والثانوية، وصولاً إلى مراحل الدراسة الجامعية.
ولاشك بأن ضغوطات الواقع الداخلي الذي تعيشه تلك الفئات العلمية النيرة المتمثلة في أزمات مجتمعاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية المستمرة، إضافة إلى عدم توفر قاعدة علمية بحثية صحيحة في بلدانها مع وجود مغريات مادية خارجية، كله يشكل دافعاً ومحرضاً قوياً لديها للهجرة والعمل خارج أوطانها حيث يمكن أن تهيئ لها الأجواء والمناخات المادية والشروط العلمية الملائمة لنمو وتصاعد وتفتق إبداعاتها الذاتية التي عجزت ظروف بلادها - من تخلف وتبعية وانقسامات اجتماعية أفقية وعمودية واستبداد وقهر سياسي وانغلاق فكري - عن تأمين متطلبات وشروط نجاحها وتألقها وإبداعها.
ويمكن أن نضرب هنا مثلاً واضحاً على أهمية وحيوية ما يمكن أن تفعله الظروف المحيطة بالإنسان في توسيع مداركه وتفتح عبقرياته وانبثاق إبداعاته، وهو العالم المصري أحمد زويل الذي حاز على جائزة نوبل في الكيمياء الحيوية منذ عدة سنوات... فقد عاش هذا العالم الكبير معظم حياته المهنية العلمية في جامعات الولايات المتحدة منذ عقد الستينات من القرن الماضي عندما كان لايزال طالباً في مراحله الجامعية الأولى... والمناخ السائد هناك هو مناخ البحث العلمي الحقيقي الذي يترك فيه الطالب مع أستاذه المشرف عليه ليبحث ويتعلم ويجرب ويتقصى ويحلل ويستنتج مع وجود موازنة مادية كبيرة متاحة أمامه للوصول إلى ما يمكن الوصول إليه من رؤى وأفكار ونظريات وحقائق علمية... ولو أن هذا العالم بقي هنا في بلده مصر لما تمكن من الوصول إلى ما توصل إليه من مكتشفات واختراعات تركزت بمجملها على مستوى علم النانو أو البايوتكنولوجي.
وإذا كان من الطبيعي والمعروف جداً أن تتأثر بلداننا العربية بهجرة عقولها المبدعة إلى الخارج، على مستوى الإبقاء على تخلفها وبؤسها العلمي المتفاقم (وتراجع مستويات حقول المعرفة وإضعاف الفكر العلمي والعقلاني)، فإن من غير المنطقي أن يتم تحميل هؤلاء المهاجرين المبدعين مسئولية هذا التخلف أو حتى جزء بسيط منه، لأن هؤلاء ليسوا في موقع القيادة والتخطيط لبلدانهم، ولم تتح للكثيرين منهم فرص ومناخات العمل العلمي الصحيح في داخل بلدانهم، وأساساً لا تتوافر أي ركائز علمية بحثية ذات قيمة فيها، فضلاً عن أن جل اهتمام مسئولي بلدانهم ونخبها السياسية ليس منصباً على العلم والمعرفة العلمية ومحاولة تطوير مجتمعاتهم وإيجاد موطئ قدم فعال لها على المستوى العالمي، بمقدار ما هو منصب ومتركز على السلطة والحكم وديمومة الكراسي للأسف... وإذا كان من الضروري التذكير هنا بأن كثيراً من البلدان العربية ترسل طلاباً على شكل بعثات دراسية علمية إلى كثير من الجامعات المرموقة والمعروفة دولياً بهدف تحقيق مزيد من التأهيل العلمي العالي الصحيح، فلابد من أن نوضح بأن كثيراً من هؤلاء العائدين من الخارج يوضعون ويسمون في وظائف ومراكز حكومية لا تتناسب أساساً مع طبيعة تأهيلهم ودراستهم العلمية التي درسوها وابتعثوا من أجلها للخارج وتكلفت الدولة من أجلها الكثير من الوقت والجهد والمال.
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 3568 - الأربعاء 13 يونيو 2012م الموافق 23 رجب 1433هـ
إختصاراً
... وإذا كان من الضروري التذكير هنا بأن كثيراً من البلدان العربية ترسل طلاباً على شكل بعثات دراسية علمية إلى كثير من الجامعات المرموقة والمعروفة دولياً بهدف تحقيق مزيد من التأهيل العلمي العالي الصحيح، فلابد من أن نوضح بأن كثيراً من هؤلاء العائدين من الخارج يوضعون ويسمون في وظائف ومراكز حكومية لا تتناسب أساساً مع طبيعة تأهيلهم ودراستهم العلمية التي درسوها وابتعثوا من أجلها للخارج وتكلفت الدولة من أجلها الكثير من الوقت والجهد والمال.
سؤال بسيط وجوابه ابسط
لأن معظم هؤلاء انتهازيون يبحثوث عن المصلحة الذاتية اينما كانت وهم فاشلون في تطوير بلدانهم الى جانب هؤلاء هناك فئة إنتهازية اخرى نجدها تعيش عالة على المجتمعات الغربية بحجج مختلف منها اللجوء بشتى اشكاله السياسي والإجتماعي والإنساني وهذه الفوضى جعلت المجتمع الغربي ينظر لهؤلاء بصورة عامة بنوع من الكراهية والحساسية المفرطة اخي العزيز تخيل إنساناً يعيش على هبات تلك الحكومات دون ان يعمل وينتج الا تتفق معي ان هناك خللاً يجب مصارحته بشفافية ومن ثمة معالجته