رُوي أن شريكاً (شريك عبدالله بن أبي شريك. ولد في بخارى. من أشهر القضاة في الدولة العباسية وخصوصاً فترة الخليفة المهدي. قيل عنه إنه واجه مراكز القوى في قصر المهدي؛ وخصوصاً مع أخذ الناس بالظنة والشبهة واتهامهم بالزندقة وراح جراء ذلك خلق كثير. كان له دور لن يُغفل في التاريخ)، دخل على المهدي فقال له: «لابد من ثلاث؛ إما أن تلي القضاء؛ أو تؤدب ولْدي وتحدثهم (تعلمهم)؛ أو تأكل عندي أكلة». ففكّر ساعة ثم قال: «الأكلة أخفّ عليّ»، فأمر المهدي بعمل ألوان من المخ المعقود بالسكّر وغير ذلك، فأكل، فقال الطبّاخ: «لا يُفلح بعدها» فقال: «فحدَّثهم بعد ذلك، وعلَّمهم العلم، وولي القضاء».
ذلك الذي رفض تولي القضاء تحرُّزاً من التوّرط في بيئة لا تتناسب مع ما عُرف عنه من زهد وتفقّه وصراحة موقف، عمد أول ما عمد بعد أن وجد أخف الخيارات لديه قبول أن يكون ضيف مائدة، إلى مواجهة «مراكز القوى» وهو تعبير له أكثر من وجه؛ تماماً كما تسمّى معارضات اليوم التي عصفت باستقرار بيئات ظلت وستظل تتوهم أنها مستقرة وهي في الهامش - المعارضات - تم إلصاق نعوت تابعيتها إلى دوائر قرار دولية وليس دوائر قوى في المحيط الذي تحركت فيه فحسب، في نهاية لا تختلف كثيراً عن بدايات «ثورجية»رفضوا التصالح؛ أو حتى العبور إلى الطرق المؤدية إلى بيئات السطوة والنفوذ وما يتبعهما.
قصة شريك تقود إلى الحديث عن تأثير البيئات التي تملك النفوذ والسطوة على الذين يراهنون على عدم قدرة تلك البيئات على احتوائهم؛ أو المساس بقناعاتهم؛ أو ممانعتهم. تلك البيئات الدخول إلى دائرة المحسوبين عليها ليس سهلاً كي يكون سهلاً الخروج منها.
الدخول إليها لا يتم إلا بحسب تدقيق وفحص حتى حمضك النووي؛ عدا خريطة ميولك وتوجهاتك ومزاجك، إضافة إلى اشتراطات تضعها تلك البيئات كي تلج تفاصيلها وما يدور في كواليسها؛ ولو باليسير منها.
بعض الممانعين وجد حصانته في طرد التفكير بولوج تلك البيئات؛ ولو من أجل إقامة اعوجاج وردّ اعتبار لمن أهين أو انتهكت حقوقه أو شيء من اعتباره، وإصلاح ما يمكن حتى توهّم إصلاحه؛ مع استحالته في مثل تلك البيئات القائمة على تسوير كل شيء واعتباره ملكية بدءاً من الأرض والبحر وليس انتهاء بالبشر - ولو ضمن دائرة ضيقة؛ أو حالات فردية - فيما بعضهم وجد الأمر لا يمس شيئاً من حصانته وممانعته ولو من باب المحاولة.
لم تغب عن أذهاننا صور مُنظّرين ومثقفين قطعوا شطراً ليس يسيراً من أعمارهم اشتغالاً على الرصد وهم يتناولون قضايا فرائض غائبة على رأسها فريضة الحقوق، مطنبين في إدانة الطغيان الذي عايشوه في مجتمعاتهم، واضعين تصورات وأفكاراً ومداخل لتلمّس نهاية له؛ لتقودهم التحولات انضماماً لتلك البيئات التي وقفوا في مواجهتها وتعريتها - نظرياً - في صورة أو أخرى، فلا هُم تجرأوا على مجرد الملاحظة؛ عدا إبداء موقف مما تشهده تلك البيئات من تجاوزات؛ ولا هُم استأنفوا دورهم القديم في إدانة الطغيان؛ ولو عبْر التصورات والأفكار والمداخل تلك، واكتفوا بأن يكونوا إما في الظل من تلك البيئات لعدم تفاعلهم معها ربما؛ أو في الصدارة استغلالاً لتاريخ قديم في المنافحة عن الحقوق والتنديد بالطغيان؛ ليصبحوا جزءاً من تلك المنظومة بشكل مباشر أو غير مباشر.
أكرر، شعراء وكتّاب وصحافيون ومفكرون وأساتذة جامعات وعلماء دين ونواطير وثورجية وطبّاخون ومعارضون شرسون سابقون ومنتمون إلى منظمات راديكالية؛ وحتى منظمات إرهابية هدفها الإطاحة بما تراه أنظمة لا تعمل بحاكمية الله ولا تقول بها؛ لم تك تتوقع أن تراهم يوماً في الزمن نفسه الذي يحاولون نسفه وتغييره لصالح الإنسان الذي ارتضوه؛ فيما هم اليوم يرسم بعضهم؛ أو يسهم على أقل تقدير في رسم خريطة خراب البيئات العربية التي يتحركون فيها دفاعاً عن البيئات المحصّنة في أسوارها وعزلتها، ويسهمون في الوقت نفسه إسهاماً مباشراً في احتقان وتعقيد واضطراب البيئات التي انسلخوا عنها وتنكّروا لها وأصبحوا في أوضاعهم المستجّدة والمريحة متخاذلين حيناً، ومتآمرين حيناً آخر.
بعض النماذج المتراجعة والمرتدّة على عقبها لم تعمّر طويلاً في بيئات السطوة والنفوذ والقرار، لاعتبارات وموازين فرضتها طبيعة تلك البيئات، وهي اعتبارات وموازين لا ضابط لها بالمعنى المحدّد والمُتعارف عليه والمألوف في العلاقات ضمن وضعيتها المتجانسة والطبيعية والصحيحة. إنها محكومة بالمزاج، ولا ضابط للمزاج في البسيط والبديهي من معرفتنا البدائية التي نرصدها في تفاصيل لا حصر لها من أوجه علاقاتنا اليومية وما يرتبط ويتأتّي من تلك العلاقات.
إنه (المزاج) تماماً كالأجَل الذي يأتيك من دون أن تتمكّن من توقيت حضوره وهيمنته عليك. ثم إن البيئات تلك من طبيعتها أن تكون محكومة ومضبوطة (بحسب ممارستها) بالمزاج؛ وخصوصاً فيما يمسّ نفوذها أو توهّم النيْل أو المساس بها؛ إذ تكون عندها متحفزة ومستنفَرة ولو لم يَلُحْ ما يدل على موضوع ذلك التحفز والاستنفار.
البعض يذهب حدّ التماهي مع منافعه ومصالحه؛ وفي الوقت نفسه يمارس - وهْماً - موقفاً يراد له أن يكون براغماتياً؛ لكنه بعيد عنه بتلمّس صوت عال يقدّم صورته وماهية موقفه مهما ناور واختبأ وراء يافطات ومسميات.
والذين عمّروا أو يظنون أنهم سيعمّرون بهكذا منحى في التوجّه، أجمعوا أمرهم وخيارهم على الذهاب إلى نهاية الشوط. شوط التماهي مع تلك البيئات بما تتيحه وتوفره لهم من منافع وسطوة ونفوذ وإن تبدّى وتمرأى أمام الذين هم أقل حظاً وخارج بيئاتهم؛ إذ هم في البيئات تلك لا يتجاوزون كونهم واجهات وأدوات وشواهد يتم استدعاؤها وتقديمها كلما تطلّبت المراحل الدقيقة والمضطربة، وبما يخدم أهداف المتسيدين تلك البيئات.
وَرَدَ في مدوّنات التاريخ اختلاف شيعي ومرجئ (المرجئة فرقة إسلامية خالفت الخوارج وأهل السنة في مرتكب الكبيرة وغيرها من الأمور العقدية، وقالوا إن من آمن بوحدانية الله لا يمكن الحكم عليه بالكفر لأن الحكم عليه موكول إلى الله) بشأن أيهما أفضل بعد النبي (ص) أبوبكر أو علي؟ فتحاكما إلى «أبونواس» فقال: «أفضلهم بعد رسول الله يزيد بن الفضل». قالوا: «ومن هو؟» قال: «رجلٌ يعطيني كل سنة ثلاثة آلاف دينار».
تلك صورة تكشف عن مدى استهداف واستمالة الذين يمكن لهم أن يحدثوا تأثيراً وقدرة على قيادة رأي عام، وقبل ذلك قيادته، والسهر على تشكيل وعيه. لا أحد بمنأى عن الإغواء واللعب على وتر موازنات تخصص للذين يؤجّلون قيمتهم وجدوى حضورهم وشهادتهم على عالم يذهب في إمعان بالغ إلى غياب سيكون عصياً أن يسجّل أي حضور فيه.
والذين كانوا في الموقف، والصريح من الخيار لا يحتاجون إلى بيئات كتلك لاختبار مواقفهم وقناعاتهم وذهابهم حتى آخر الشوط لتسجيل موقف في هذا الاضطراب والجنون المفتوح على المراهنة على الإنسان بفعل المزاج وشهوة التملّك. موقف يدفع صاحبه ثمنه بخياره أو من عدمه.
في العام 1933 أمر أدولف هتلر بأن يبتلع المؤلف إرنست تولر كتابه الذي وضعه ضد النازية. الكتاب يحوي 470 صفحة وظل تولر يأكل الكتاب حتى مات. تلك صورة مثقف وظيفته الرصد والكشف. لم يكتف بأن يكون متفرّجاً على الخلل وقد أصبح نظاماً يُعمل به. صورة أخرى في المكان والزمان نفسه تأخذنا إلى وزير الدعاية السياسية لزعيم الرايخ، غوبلز (1897 - 1945) كان من المعارضين لعضوية هتلر في الحزب النازي ليصبح بعدها أحد أنصاره وموظفيه!
المواقف لا يمكن أن تستنسخ وتتكرر في مثل محاولات تلك البيئات لاحتواء الذين كانوا يشكّلون عبئاً وصداعاً وأحياناً كوابيس لها. ثمة مواقف تأخذ منحى تهكمياً إزاء ما يحدث من كل ذلك.
قبل إعلان توبته يكتب أستاذ الرياضيات والفيزياء في جامعة فلورنسا، الإيطالي جاليليو جاليلي، في مواجهة البيئة التي مهّدت لمحاكمته، متهكّماً: «أتوقع أن يصبح علم الفلك في زماننا حديث السوق، وأن يذهب أبناء بائعات السمك إلى المدرسة، وإذا حالفهم الحظ سيتعلّمون أن الأرض تدور حول الشمس، وأن البابا والكرادلة والأمراء والمفكرين والتجّار وبائعات السمك وأمهاتهم يدورون معها».
البعض فصل اعتذار جاليليو عن معاينته لحفلات الشواء في الهواء الطلق التي تعرض لها عدد من زملائه في ظروف هي الأخرى تحتاج إلى قراءة وتتبّع ظروفها وملابساتها. كان اعتذاراً لم تمله ظروف طبيعية وضمن مساحة حركة وبعيداً عن بيئات الهيمنة والسطوة بكل أشكالها ومسمياتها وعناوينها على رغم الاتفاق في الممارسة والهدف.
يكتب جاليليو: «أنا جاليليو جاليلي، أستاذ الرياضيات والفيزياء في جامعة فلورنسا، أدين على الملأ تعاليمي بأن الشمس مركز الكون ولا تتحرك وأن الأرض ليست في المركز وتتحرك. أنكر هذه التعاليم بقلب مخلص وإيمان صادق وأمقت وألعن وأشجب هذا وكل الهرطقات والأخطاء الأخرى التي تخالف تعاليم الكنيسة».
كان ذلك نوعاً من تحدي النار. البعض لا يحتاج إلى ذلك في التنازل عن نظرية توصّل إليها. سيتبرّع لتلك البيئات بما شاءت ولو قررت أن المخلوقات التي لا تتفق مع سياقاتها هي وليدة الصدفة، ولا مكان للصدفة في شرْعتها.
أصل إلى الآتي: حين يتوهم أي منا أنه يملك سطوة التأثير على البيئات المغلقة والسرية والتي تتناقض مع رؤيته وتوجّهه وقناعته وثوابته، ويرى فيها الشر كل الشر وبخيريته يزعم أنه يستطيع أن يعيدها إلى رشدها، لا يخلو من وهم، وحين يتوهّم أي منا أن البيئات تلك بنفوذها وسطوتها وأدوات إغرائها لا تستطيع أن تخترقه وتخترق قناعاته ويذهب في ارتجال حين تتاح له فرصة كتلك، يكون في العمق من الوهم وما بعده. المسألة أكبر من ذلك بكثير. تجنبْ تلك البيئات تكنْ في مأمن؛ لكن لا يعني ذلك أن تتفرج على الخراب الذي تقيمه وتذهب في صمتك. ستكون بذلك واحداً من مهندسي ذلك الخراب!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3568 - الأربعاء 13 يونيو 2012م الموافق 23 رجب 1433هـ
نصيحة
ما يطرحه الكاتب يتسم بالعمق والدقة ولكن لي تحفظ على اللغة التي يستعملها الكاتب فهي لغة كتب ودروس لا لغة صحافة وجرائد كذلك الأسلوب.
"صارت المجازر العامة وإبادة الأمم جهاداً، ونهب الشعوب زكاة، وطواغيت الأرض أصفياء الله، وأعداء الناس أحباء الله المخلصين !
بيت محمد يهدم، وفاطمة تدفن سرا، وعلي يتخذ جنح الليل جملا، يتسلل به إلى غابات النخيل ليبث أشجان قلبه في حلقوم البئر، وأخيراً يقتل في محراب العبادة، والقصر الأخضر لـ(رب المؤمنين) يغط في سكر الخمرة وأنغام الغناء،
شقيق
مقال أكثر من رائع ومن أفضل ما قرأت لك بو محمد
شكرا شقيقي العزيز وسوف أعيد قراءته مرة اخرى