حدث في هذا الزمان على أرض جزر الرمان أن رنّ ذات مساء جرس الهاتف في محل للمعجنات الساخنة. رد صاحب المحل على المتصل وسجل الطلب واعداً إياه بدقائق ويصل الطلب إليهم. فتساءل صاحب الطلب: هل هذا أكيد؟ رد صاحب المحل: ولو... أكيد... تكرم عيونك.
وللعلم بأن أنواع الخبز المعمول بالقمح أو بالشعير اشتهرت وتختلف المذاقات في التاريخ بين أهل الشرق العربي الإسلامي وأهل الغرب الأوروبي، وإن كان ما يسمي بـ «المعجنات» وهو اختصار لأنواع الخبز بالجبن أو اللبنة أو البيض أو الزعتر أو اللحم أو الدجاج، وغيرها؛ قد انتشرت واشتهرت منذ انتشارها في بلاد الشام والأناضول لسنوات سابقة. حتى وصلت مناطق الخليج العربية منذ نحو عشرين عاماً وحلت تدريجياً محل كثير من أطباق المائدة الخليجية التقليدية، ومنها البحرينية، صباحاً ومساءً. لدرجة لم يعد هناك بيت في البحرين يستطيع أن يتخلّى عن المعجنات بعد أن تخلى نوعاً ما، بسبب مزاحمة المعجنات، عن أشهر أطباق المطبخ الهندي الخفيفة وهي (السمبوسة والجباتي بنوعيه الأبيض والأحمر). حتى صار العديد ممن يعانون من أمراض الدهون بأنواعها يفضلون المعجنات الصحية على غيرها والتي تصلهم ساخنة إلى بيوتهم متى ما شاءوا بشرط أن تكون قيمة الطلب معقولة.
عندما جهز الطلب تلك الأمسية لتلك الأسرة، حمله الموصل الآسيوي على دراجته النارية السريعة والتي كان يفاخر بها بين أقرانه في سرعة توصيله للطلبات حتى لو كانت في أقصى القرى. لكنه بدءاً من فبراير/ شباط 2011 بدأ يعاني في سرعة التوصيل بسبب ما يدّعيه من مشكلة الغازات اليومية. وتلك الأمسية عندما وصل لنقطة معينة عند مدخل إحدى القرى أوقفه بعض الشباب الملثمين وهم بلباس مدني وهو يدّعي بأنهم من خارج المنطقة، واستعاروا منه «معجنة - لحم بالعجين» ضريبة للمرور بسلام منهم، وقد أعطاهم إياها بعداً عن أي إشكال معهم. ولكنه عندما ابتعد قليلاً عنهم اتصل بصاحب المحل وأخبره بما حصل، فقال له أوصل الباقي وسنعتذر لصاحب الطلب عن النقص. وواصل الآسيوي طريقه على الدراجة النارية وعند مدخل إحدى القرى المتأزمة فقد الموصل «معجنة- بيتزا خضرة» أخرى عند حاجز ناري وقعت بقربه عدة مناوشات وكاد الموصل أن ينزلق بدراجته النارية عند ذاك المنعطف.فاتصل بصاحب المحل، فقال له إن استطعت أن ترجع فارجع لأزودك بغيرها، فقال له: بوس، فيه واحد غير آدمي يضرب واحد آدمي، فرد عليه بغضب ليس هذا من شأنك، فشرح له الموصل الأمر قائلاً: والله أنا ما يقدر يرجع لأن كل مكان محاصر، يرجع الحين مستحيل من نفس طريق، ما أقدر يرجع صدق أنا. فطلب منه أن يوصل المعجنات المتبقية وسيعتذر لصاحب الطلب عن فقدان الضحية أو المعجنة الثانية. وهكذا طوال الطريق فقد الموصل الآسيوي أربع معجنات بين غياب قسري وأكل بالقوة ونتف بين المناوشات.
وعندما أوصل آخر «معجنة- بيض بحريني بالجبن الفرنسي» كانت منتوفة من كل جهة وشبه منهارة وشاحبة، فحزن أصحاب الطلب وهم يتسلمونها وقرأوا عليها الفاتحة، وناموا تلك الليلة جياعاً ولسانهم يلهج بالدعاء!
وفي اليوم التالي، اتصلوا بمحل المعجنات ذاته لطلبٍ آخر تعويضاً عما حصل البارحة، فجاءهم الرد: نأسف هذا الهاتف خارج الخدمة، لا تحاول مرة أخرى فالمحل محظور! لأن معجناته قد تم مصادرتها كلها بسبب تجاوز صاحبها لقوانين الاستيراد والتصدير الدولية في زمن الأزمات المحلية.
وبعد سنوات، عُثر على مذكرات «معجنة متقاعدة» كتبت فيها سطور مهمة للتاريخ نقتطف منها بعضها: «تقدمت ذات يوم ببلاغ ضد صاحب الفرن الذي أعمل عنده لأنه تسبب بإهماله في زيادة إحراقي مع زميلاتي في الحي اللواتي لم يتقدمن بمثل هذا البلاغ. وبما أن صاحب الفرن صهر المختار فقد حُكم عليّ بالحجز في فرن انفرادي بتهمة التقدم ببلاغ كاذب! وقبل يومين تم القبض على إحدى المعجنات قبيل منتصف الليل بقليل بتهمة مصاحبتها آسيوي كان يحاول توصيلها لأحد الزبائن المشكوك بأمر تهريبه للسلاح داخل المعجنات، بالإضافة إلى أنه من المطلوبين بتهم إرهاب دولية. اليوم حزنتُ كثيراً لسماع خبر دهس ثلاث من زميلاتي من طائفة المعجنات الحارة بالشطة أثناء عملية توصيل لأحد الزبائن البارحة على شارع فرعي في إحدى القرى. وقد علمت أن ذلك كان خلال مناوشات شوارعية ليلية، وللأسف لم يتقدم أحد حتى كتابة هذه المذكرات يدّعي علاقته بتلك المعجنات المدهوسة.
كانت هذه مقتطفات من برنامج خاص بثته قناة فضائية تم تدشينها أخيراً وتحمل اسم «فضائية المعجنات»!
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3556 - الجمعة 01 يونيو 2012م الموافق 11 رجب 1433هـ
نضحك يعني؟