منذ أن جرى طرح فكرة اتحاد دول الخليج العربي في قمة قادة هذه الدول في ديسمبر/ كانون الاول من العام الماضي بالرياض، وما أعقبها بعد ذلك من تسريبات عن نية هذه الدول في إعلان «صيغة» أو «شكل» اتحادي بالتزامن مع القمة التشاورية الأخيرة التي انعقدت في مايو / أيار الماضي، وكانت تلك التسريبات تتمحور حول ان السعودية والبحرين ستكونان هما نواة «المبادرة» الاتحادية، إلا أن تلك القمة انعقدت وانتهت دون إعلان أي خطوة في هذا الاتجاه سوى التأكيد مجددا على أهمية الاتحاد، وإحالة الموضوع لمزيد من الدراسة، الأمر الذي أضاف غموضاً جديداً على هذه المسألة.
منذ ذلك الوقت وفكرة الاتحاد تحظى باهتمام شعبي وإعلامي كبيرين، وتتفاوت الاهتمامات بين مؤيد وداعم له دون تحفظ، وآخر رافض ومناهض له بصورة مطلقة، وثالث بين هذا وذاك، وكل له أسبابه ودوافعه وحججه التي تخدم وجهة نظره، ومع هيمنة الصمت المطبق من جانب الدول المعنية والمسئولين فيها، ومع شح المعلومات عن حقيقة ما جرى ويجري بشأن هذه القضية، فقد راجت الكثير من الشائعات عن عمق الخلافات وتضارب مواقف ورؤى حكومات الدول الخليجية من هذه «المبادرة» بين دولة رافضة للفكرة من أساسها (عمان) وأخرى غير متحمسة لها في الظروف الراهنة (الإمارات) وثالثة قابلة بها ولكن ضمن شروط محددة (الكويت)، ورابعة يلف موقفها الكثير من الغموض (قطر)، وجميع هذه المواقف لا يمكن قراءتها خارج سياق الحساسيات القطرية ورغبة كل دولة في الانكفاء الذاتي والانشغال بالداخل.
والمفيد في طرح فكرة الاتحاد مجدداً انها حركت المياه الراكدة.
عند هذه النقطة ترتسم أمامنا الصورة واضحة وجلية، وهي ليس هناك سوى السعودية صاحبة الفكرة، والبحرين التي فاق حماسها كل التوقعات، وتجاوز اندفاعها كل الحسابات والمعادلات الداخلية، ورأينا كيف تحولت هذه الفكرة عند البعض وفي وسائل الإعلام الرسمية، إلى مناسبة للاحتفالات، وإلى فرصة لإعادة شحن العواطف وتجييش المشاعر، وخلق حالة انقسامية جديدة تضاف إلى الوضع المتأزم والمنقسم أصلاً. وهذه للأسف حسابات صغيرة وقاصرة لا علاقة لها بالأبعاد الإستراتيجية القومية، كما ليس لها علاقة بالطموحات وتطلعات الناس، كان كل ذلك قبل أن يأتي قرار القمة التشاورية الذي صب الماء البارد على بعض الرؤوس المشتعلة حماساً وأعاد مشروع الاتحاد مرة أخرى إلى «الفرن» لإنضاجه.
نحن هنا نتحدث عن رؤى ومواقف أنظمة وحكومات، وليس عن حقيقة مواقف وقناعات المواطنين في هذه الدول، الذين لا يعرفون شيئاً عن طبيعة الاتحاد وأولوياته، ولا عن شكله أو حجمه، أو الأهداف المرجوة منه، وهذا راجع بالأساس إلى غياب الشفافية في التعاطي مع هذه «المسألة» وتغييب إرادة الناس في مثل هذه القرارات المصيرية، وهو ما يفسر طبيعة العلاقة بين هذه الدول وبين مواطنيها، ويكشف كيف مازالت هذه السلطات تنظر إلى شعوبها على أنها دون مستوى النضج والوعي، وانها لم تبلغ بعد مرحلة «الفطام السياسي» الذي يمكن أن يجبر السلطات على أن تقيم وزناً أو تحسب حساباً لرأي شعوبها، سواء في هذه القضية أو غيرها من القضايا المصيرية الأخرى.
في ظل واقعنا الراهن المتوتر سياسياً والمحتقن طائفياً، ومع وضع إقليمي متفجر لا أحد يجهل امتداداته المحلية، لا يمكن لنا أن نتوقع سوى ما هو حاصل فعلا من خوف وشكوك عند قطاع كبير من المواطنين بشأن أهداف هذا الاتحاد، شكوك تترجمها العديد من التساؤلات، من قبيل ما اذا كان هذا الاتحاد يحمل معه مشروعاً سياسياً وحضارياً، أم انه مجرد خطوة سياسية تستجيب لبعض الهواجس الأمنية؟. وهل في مقدور هذا الاتحاد ردم الفجوات الداخلية ومواجهة التحديات الخارجية؟... كل هذا الأسئلة معطوفةً على الخوف من ضياع كل المنجزات والمكتسبات السياسية والاجتماعية التي تحققت وتكرست عبر سنين من التضحيات والنضالات، والخشية من ان يتحول هذا الاتحاد إلى «صيغة» تخدم الأنظمة والحكومات فقط.
وهكذا وسط هذه الحالة من المخاوف والشكوك، تغيب الحقيقة المؤكدة التي لا تقبل الجدال، وهي ان المواطنين في دول الخليج العربي، على مختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية ليسوا ضد فكرة الاتحاد من حيث المبدأ، إلا أنهم يتوجسون من غياب البعد الشعبي والديمقراطي له، هذا البعد الذي يمكن أن يتحقق فقط، من خلال مصادقة المؤسسات الدستورية المعبرة عن إرادة المواطنين، أو عبر إجراء استفتاء عام يعطي المشروعية لمثل هذه الخطوة.
ولكن احدى العقبات الرئيسية التي تحول دون حصول توافق وطني عام على فكرة الاتحاد ما هو قائم اليوم من تجاذبات ونزاعات طائفية، حيث الانقسام الطائفي الحاد في البلاد، يجعل التعامل مع كل القضايا والملفات الوطنية ينطلق من رؤية طائفية، وهي نظرة تربط الحقوق السياسية بالانتماءات المذهبية، وتجعل المصالح الفئوية والطائفية صاحبة الأولوية، وهي للأسف المعيار الذي يحدد مدى صلاحية أو قيمة هذا الشيء من عدمه.
هنا تبرز بعض الأسئلة الأخرى المكملة أولها: كيف يمكن أن نعالج مسألة أو قضية الاتحاد من منظور وطني وقومي حقيقيين؟ فالبلاد تعيش أوضاعا ليست طبيعية والشعب منقسم على نفسه، وهذه الأوضاع تزداد سوءاً وتفاقماً مع مرور الوقت، نظراً لغياب أي رؤية سياسية واضحة ترسم خريطة طريق محددة للخروج من الأزمة الخانقة الحالية، وجميع دول المنطقة تعاني من أزمات سياسية واجتماعية، وتواجه فتنا طائفية قد تتحول معها أية خطوة غير محسوبة العواقب إلى «صواعق» تفجر مزيداً من الألغام السياسية والاجتماعية في هذه البلدان.
والسؤال الثاني: كيف لنا في مثل الظروف إقناع الشعوب والقوى السياسية والمجتمعية بأهمية وضرورة الاتحاد؟ وما يمكن أن يشكله من ضمانة لمستقبل هذه الدول وشعوبها؟ دون أن تتحول هذه «المبادرات» «الوحدوية» إلى عوامل أو أسباب أخرى للانقسامات وتعميق الشروخ الاجتماعية؟ وخاصة في ظل انعدام الثقة الحاصلة بين كل الأطراف، فالدولة التي لا تثق بشعبها أو الشعب الذي لا يثق في حكومته، لا يمكن أن تعيشيا حالة من الاستقرار أو التجانس الوطني المطلوب لنجاح أي مشروع وطني مهما كان حجمه أو شكله.
في مثل هذه الأجواء علينا إذاً ألا نستغرب أو نستكثر على المواطنين طرح بعض التساؤلات والهواجس المشروعة، التي تفصح عن شكوك البعض من جدوى هذه الاتحاد بالصيغة المطروحة إعلامياً وسياسياً، والمطلوب أن نعمل أولاً على تبديد هذه الشكوك، وإزاحة كل ما يثير المخاوف. وهذا البعض يتساءل «وهو محق» لماذا لم تبادر دول الخليج العربي لمساعدة البحرين سياسياً؟ من خلال التقدم بمبادرة حل سياسي يخرج البلد من أزمته، ويؤدي إلى إعادة التعايش الأهلي بين مكوناته الاجتماعية، وعودة اللحمة أو الوحدة الوطنية الضرورية واللازمة، لأية خطوة اتحادية.
ولهذا السبب تحديداً يثار سؤال مهم، وهو ما مدى قدرة تعايش مبدأ الطائفية أو السياسات الدينية مع الديمقراطية في حالة قيام دولة الاتحاد «المفترضة»؟ فنحن اليوم في ظل تزايد الحراك الوطني والسياسي لم نكف يوماً عن دعواتنا وتحذيراتنا من خلط الدين بالعمل السياسي، ونرفع عقيرتنا بالصراخ «صبح - مساء» لإبعاد المنابر الدينية عن الخوض في المسائل والقضايا السياسية، ولم نتوقف «بحق وباطل» عن الحديث عن الدولة المدنية، ترى ما هي مرجعية دولة الاتحاد؟... هل هي «الدولة المدنية» التي منطلقها الديمقراطية العصرية واحترام حرية الرأي والمعتقد والتعددية السياسية والاجتماعية وصون الحقوق الخاصة والعامة وهي دولة القانون والمؤسسات ومحاربة الفساد والتمييز؟.. أم «الدولة الدينية» القائمة على «الشورى» و«البيعة» و«الخلافة» و«مبدأ السمع والطاعة»؟
ترى أي المرجعية ستكون لها الغلبة في دولة الاتحاد، للإجابة على هذا السؤال علينا فقط متابعة مضامين خطب الجمعة والمواقف السياسية للقائمين عليها هنا وهناك ففي هذه الخطب ما يغني عن ألف جواب.
إقرأ أيضا لـ "محمود القصاب"العدد 3555 - الخميس 31 مايو 2012م الموافق 10 رجب 1433هـ
مزيدا من الايضاح
نرجو تسليط الضوْء علي الفقرتين الاخيرتين من المقال في مقال يخصص بالكامل لما ورد فيهما من مداخلات هامه, شكرا لكم والله الموفق .