يحتّم المنطق السياسي، وعلم السياسة، ان يستجمع القائد أو الامة كل عناصر القوة عند الازمات، فهي مصدر الاتكال، ومنبع الحل للأزمات. ويبدو السعي من القادة والأمم إلى تجميع عناصر القوة، وكأنه عمل مستمر في الزمان والمكان، كما في السلم والحرب. لكنه يبدو ضروريّا، وملزما للأمة والقادة، أي استجماع عناصر القوة، وخصوصا عندما يكون المصير على المحك، ومهددا. ففي حروب الوجود، ترخص الاثمان، فلا تعود الأمم تحسب شهداءها، فيكون كل شهيد نموذجا لما بعده. ولا يعود الرأي العام يهتم بعدد القتلى، فالانتظار والفشل، قد يعنيان قتل الوطن، وقتل التطلعات والقيم العليا التي قامت عليها أسس هذا الوطن. من هنا، تأخذ دراسات الأمن القومي مكانة عالية في وعي الشعوب وقادتها. فيها، تدرس الامم تطلعاتها، قيمها، أهدافها، وواقعها تجاه التركيبة الأكبر في الاقليم والعالم. تعمد بعدها إلى درس المخاطر عليها، وما مصدرها وتأثيرها على الكيان.
لكن مفهوم الأمن القومي، مفهوم متحرك في الزمان والمكان، ويعود ذلك إلى التبدل المستمر في نوعية ومصادر التهديدات. ولا يجب على الأمم ان تنام على أمجادها وتعتبر أمنها مؤمنا. هكذا فعلت أميركا قبل دخولها الحرب الباردة، فأتت مفاجأة بيرل هاربور. كذلك الامر أهملت أميركا خطر تنظيم «القاعدة»، فكانت المفاجأة الأكبر لها على مداخل القرن الواحد والعشرين.
ما المخاطر على العراق؟
لا يمكننا نكران بعض فوائد الحرب الأخيرة على العراق، فهي أزاحت نظاما كان ظالما على محيطه، وعلى شعبه تحديدا. أصبح العراق أكثر حرية من ذي قبل. بدأت المجموعات المذهبية، الاثنية المكونة له تعبّر عن ذاتها وعن تطلعاتها. لكن الاحتلال خلق أيضا معضلات كبيرة وكبيرة جدّا، منها:
- أولا هناك احتلال قد تطول مدة بقائه لأجل غير مسمى. فالاستثمار الأميركي في العراق والمنطقة، هو كبير جدّا، ولابد من ان ينتظر المردود المنتظر. والوجود الأميركي في العراق، هو ليس من اجل نظام صدام حسين فقط، فهو يذهب في عدّة أبعاد واتجاهات. في الاتجاه النفطي، تريد أميركا السيطرة على النفط، واعتباره ثروة عامة ليست لبلد واحد يتحكم بالعالم، وهي تريد السيطرة عليه للتحكم بأمن الطاقة لكل من اوروبا والشرق الاقصى. في الاتجاه الاسرائيلي - الفلسطيني، تريد أميركا أمن «إسرائيل» قبل غيرها في المنطقة، وبضرب العراق، تكون أزاحت الخطر الأكبر. وفعلا هذا ما عبّر عنه كل من وليم كريستول ولورنس كابلان (من أهم مفكري وكتّاب المحافظين الجدد في أميركا)، في كتابهما «تبدأ طريقنا في بغداد». أما في البعد الثالث، فإن المقصود هنا هو حرب أميركا على الإرهاب. هي في العراق لأنها تريد تغيير وجه المنطقة. هي في العراق، لأنها تريد المعلومات عن الإرهاب. فعلى رغم أنها الدولة الاقوى في العالم، وعلى رغم أن لديها الجيش الأكثر حداثة في العالم، يبقى حصولها على المعلومات المتعلقة بالإرهاب ونواياه، امرا صعبا جدّا جدّا. وهذا ما يعبر عن الواقع من خلال استمرار العمليات الإرهابية حول العالم.
- أدى هذا الاحتلال إلى قلق اقليمي، وإلى زلزال قضى على أركان الستاتيكو الذي كان سائدا قبل ذلك، وبدأت الدول المحيطة تسعى إلى استشراف آفاق المستقبل لترى السبيل الصحيح إلى سلوكها، فهي كانت تتعامل مع «إسرائيل» على انها سرطان زرع في المنطقة ولابد من استئصاله. أما الآن، فهي تتعامل مع وجود الراعي لهذا السرطان. فلا هي قادرة على المواجهة المباشرة والرفض المطلق. ولا هي قادرة على الانضمام إلى القطار الأميركي لأنها قد تكون بذلك خائنة لما وعدت به شعوبها. لكن هذا الأمر قد لا يعني أنها كانت مخلصة لشعوبها، وأنها عملت فعلا لصالحهم.
- وأخيرا وليس آخرا، خلق هذا الاحتلال معضلة جديدة، تمثلت بالفوضى في العراق وفي المنطقة بشكل عام. في العراق، تدور حرب عصابات بعد ان اعترف بها قائد المنطقة الوسطى، الجنرال أبوزيد. وهي حرب لا يعرف أحد من يقودها، يمولها ويخطط لها. فماذا عنها؟
تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى قتل الزعامات العراقية بعد ان احتلت الأرض، وهي استطاعت حتى الآن، القبض على الكثيرين منهم، لكن الجائزة الكبرى لها تمثّلت بقتل ولدي الرئيس صدام حسين، عدي وقُصي. عند ذلك اعتقد الكثيرون ان المقاومة ستخف تدريجيّا لتنتهي فيما بعد. لم يحصل هذا الامر (راجع المقال السابق في «الوسط»). منذ يومين قبضت القوات الأميركية على حسن علي المجيد المتهم باستعمال أسلحة الدمار الشامل ضد العراقيين، وخصوصا الأكراد، وأمل الكثيرون ان نخف العمليات ضد القوات الأميركية، لكنه كان دائما يحصل العكس. لماذا؟ قد يعني هذا الأمر ان الذين قُبض عليهم هم خارج، او على هامش، ما يجري من عمليات مقاومة ضد القوات الأميركية. فالمقبوض عليهم هم من القادة التقليديين في مجال خوض الحروب، كانوا إرهابيين على شعوبهم أكثر مما كانوا على أعدائهم. ولكي يقودوا حرب مقاومة، يجب ان تتوافر لهم مؤسسة مقاوماتية تعمل بشكل هرمي، كما كانت تعمل جيوشهم. وإذا كانوا هم من خططو لحرب المقاومة بعد أن تركوا الأميركيين يحتلون العراق في وقت قياسي، فقد يعني هذا انهم قادة فاشلون، وهم فعلا فاشلون.
إذا من يقاتل
في العراق ضد الأميركيين؟
في الوقت الذي تدّعي أميركا أنها الاقوى في العالم عسكريا على الأقل. وفي الوقت الذي تعتبر فيه أنها تسيطر على الثورة في الشئون المعلوماتية والاتصالات. وفي الوقت الذي يعتبر فيه العالم ان الجيش الأميركي هو الجيش الوحيد الذي أدخل التكنولوجيا الجديدة في عقيدته العسكرية، وهو الجيش الوحيد في العالم القادر على خوض هذا النوع الجديد من الحروب، تبدو أميركا عاجزة عن التقاط اتصال من قائد مقاوماتي يدير العمليات ضدها كي تعرف مكانه فتقبض عليه أو تقتله. حتى الآن، يبدو ان أميركا في مأزق. فهي كسبت الحرب، وفشلت حتى الآن في المشروع السياسي، لذلك يبقى نصرها منقوصا. لم تتوقع أميركا الحرب عليها من شعب حررته من نير طغيان نظامه. وهي لم تعد جيشها لهكذا نوع من العمليات العسكرية، فهو جيش مدرّب للحرب الهجومية بشكل تام. فأميركا لم تدافع في حروبها ابدا. وعندما تدافع، يكون هذا الدفاع مؤقتا بانتظار تحضير الهجوم. وإذا ما اضطرت إلى الدفاع لوقت طويل، فهي تكون خاسرة عادة. هكذا حصل في فيتنام. من هنا نرى سعي أميركا الحثيث حاليا إلى استقدام قوات أوروبية وغيرها كي تتسلم عمليات حفظ الأمن داخل العراق. لكن الواقع هذا يدل على ان الدول أصبحت مترددة في المساهمة بعد ان رأت ما يحصل داخل العراق. فالدول المتحمسة للمشاركة، هي الدول التي لديها مصالح مباشرة داخل العراق، كتركيا مثلا. أما الدول الباقية، فهناك منها من يريد معاقبة أميركا لأنها ذهبت منفردة إلى الحرب، كفرنسا. وهناك من يريد المشاركة في الأمن، كما في إدارة العراق. وهذا ما لا تريده أميركا.
في ظل غياب استراتيجية أميركية واضحة وناجحة ضد المقاومة. وفي ظل الممانعة الأميركية لمشاركة الدول الكبرى والامم المتحدة في رسم مصير العراق المستقبلي، يبدو لنا أن ملامح السيناريو الأسوأ بدأت بالظهور (راجع مقالنا في الموضوع نفسه في «الوسط»). يتمثّل السيناريو الأسوأ في أن يصبح العراق دولة ساقطة، تعجز أميركا فيه عن ضبط الأمر. يصبح العراق مركز ثقل العمليات الجهادية ضد الكفّار الأميركيين، لتوجه كل المجاهدين إليه. ليحوّل العراق إلى ساحة المعركة الأساسية لحرب أميركا على الإرهاب، وفي الوقت نفسه ساحة المعركة الاساسية لحرب الإرهابيين على أميركا. فيصبح العراق مقتل أميركا كما كانت افغانستان مقتل الاتحاد السوفياتي سابقا.
إذا من يقاتل؟
نحن لا نعرف بالتأكيد، لأننا وإذا ما عرفنا، فمن المفروض ان تعرف أميركا الدولة العظمى، وأن يعرف غيرنا من يقاتل. لكننا نحن هنا نحاول تحليل الواقع العراقي انطلاقا من المعطيات المتوافرة، ومما يجري على الساحة العراقية. لكن استمرار المقاومة وتحقيقها لنجاحات (من منظار المقاومة على الأقل)، قد يعني ان أميركا لاتزال عاجزة عن رصد تركيبة وطريقة عمل هذه المقاومة. فمعرفة هرمية المقاومة وطريقة قتالها قد يجعل أميركا ترصد مراكز ثقل هذه المقاومة لتقضي عليها. قضت أميركا على مراكز ثقل النظام السابق، عدي وقصي. استمرت المقاومة، الامر الذي يعني ان مراكز ثقل المقاومة لاتزال سليمة. أو انه يمكننا القول إنه لا يتوافر لهذه المقاومة مركز ثقل على الأقل داخل العراق Leaderless Resistance. فماذا عن هذا المفهوم؟
هو مفهوم من مصدر أميركي، وضعه اوليوس لويس آموس وتبناه فيما بعد لويس بيم. وُضع هذا المفهوم لمقاومة الدولة عموما، والدولة الأميركية خصوصا. ارادت الميليشيات الأميركية من خلال هذا المفهوم، التخفي عن انظار وكالات الدولة الأميركية، كـ «الأف. بي. آي» وغيرها كي لا يتم القبض عليهم. فهم في المطلق عناصر تريد سقوط مفهوم الدولة كدولة. فالحكومة هي الخطر الأكبر عليهم، وذلك بحسب ما يعتقدون. يرفض واضع هذا المفهوم التنظيم الهرمي للمقاومة. فالتنظيم الهرمي، هو كخريطة طريق للدولة كي تقضي على المقاومة. فمن السهل معرفة القيادة، التخطيط والتموين من خلال الهرمية، الأمر الذي سهّل عملية القضاء عليهم. يقترح لويس بيم ان يكون العمل من خلال ما يسمى بالـ «الخلايا الشبح» Phantom Cell . إنها خلايا معزولة عن بعضها بعضا، لا تعرف بعضها بعضا، الامر الذي يؤمن سريتها واستمراريتها. لا هرمية فيها. موزّعة جغرافيّا وعلى مساحات تشمل كل مسرح المقاومة. تُعطى التوجيهات والأوامر لها بشكل عام، وعلى كل خلية ان تُؤقلم هذه التعليمات مع واقعها العسكري، السياسي والجغرافي. بمعنى آخر، الهدف الأكبر هو ضرب الدولة، لكن التنفيذ يحصل بحسب ما يسمح به الواقع العملاني على الأرض، وضرورة عدم انكشاف الخلية. مقارنة بما يحصل في العراق، يمكننا القول ان هذه المفهوم مطبّق بشكل كامل وعلى الشكل الآتي:
- أعطت القاعدة الهدف الأعلى عبر فتاوى أسامة بن لادن.
- تعتبر القيادة العليا مرشدا روحيّا للحرب الشاملة للقاعدة.
- ولا يبقى على أي مؤمن، وفي أي مسرح تتوافر فيه الاهداف اللازم ضربها، إلا ان يقوم بهذا العمل من دون الرجوع إلى أيّة قيادة. فهو كشخص بحد ذاته خليّة شبح.
- بذلك يُشكّل انتشار هذه الخلايا الشبح للقاعدة على مدار الكرة الارضية - ضمنا الأرض الأميركية - هاجسا استراتيجيّا للقادة الأميركيين.
من هنا كان ضرب مبنى الامم المتحدة في العراق من قبل هذه المنظمات. فالعقلانية العراقية الأصيلة لا تضرب الأمم المتحدة بسبب عدّة أمور منها:
- تعتبر الامم المتحدة مناهضة وممانعة للمشروع الأميركي في المنطقة. فهي مانعت الحرب على العراق من دون قرار خاص من مجلس الأمن.
- فيها، أي الامم المتحدة، كل العناصر الممانعة للحرب الأميركية، ولهيمنة أميركا تحديدا.
- هي ليست قوى محتلة، بل هي تساعد على إعادة بناء العراق، فهي كانت موجودة قبل الحرب. وكلما نجحت الأمم المتحدة في مهمتها تسرّع خروج الأميركيين مبدئيّا.
- لاتزال الامم المتحدة وعلى رغم ضعفها، المنبر العالمي الوحيد القادر على لجم جماح القوة الأميركية.
- كان يمكن للمقاومة ان تكون عاملا إيجابيّا تجاه الأمم المتحدة، فهي تُصعّب مهمة أميركا بشكل كبير، لتعي هذه الاخيرة انه لا يمكنها العمل منفردة داخل العراق، فتذهب أميركا عند ذلك إلى طلب مساعدة الأمم المتحدة. أما ضرب الأمم المتحدة هكذا، فإنه يقرّب العالم أكثر فأكثر من المشروع الأميركي.
أين العرب من هذا الواقع؟
لا يريد العرب الاعتراف علنا بمجلس الحكم المؤقت، لكنهم ليس لديهم بديل. لا يريدون الاحتلال الأميركي للعراق، لكنهم يساعدون الأميركيين عسكريّا. يلعنون الاحتلال، لكنهم يأخذون المساعدات الاقتصادية من أميركا. يرفضون الاحتلال الاسرائيلي، لكنهم يمهدون لـ «خريطة الطريق». هم مع المقاومة عموما، لكنهم ضد الإرهاب. فهل هناك في التاريخ دولة كبرى او امبراطورية محتلة، اعتبرت في يوم من الايام أن المقاومة ليست إرهابا؟ يرفض العرب مجتمعين في جامعة الدول العربية الاحتلال الأميركي للعراق، فلماذا لا يضعون مشروعهم السياسي، الاقتصادي والعسكري - الأمني، والمتعلّق بالعراق وعبر الجامعة، ويذهبون مع مجلس الحكم المؤقت العراقي إلى الامم المتحدة - مجلس أمن او جمعية عمومية لا فرق - فيعرضونه حلاّ لإخراج العرب والمسلمين من الورطة الكبرى؟ بانتظار هذا الأمر، يبدو ان العراق سيستمر في دفع الفواتير الباهظة، بانتظار اليقظة العربية الكبرى. فلننتظر، وما أصعب الانتظار
العدد 355 - الثلثاء 26 أغسطس 2003م الموافق 27 جمادى الآخرة 1424هـ