أن تنتخِب مصر، رئيساً لها لأول مرة، منذ أن وحَّد الملك الفرعوني مينا، شمال مصر وجنوبها قبل خمسة آلاف سنة (كما قال أسامة الغزالي حرب) فهذه غصَّة، ويا لها من غصَّة. كيف حصل هذا الأمر، في بلد ينام على إفاضات أهم الحضارات الإنسانية التي صاغت شكل العالم؟ البلد الذي علَّم الشعوب الكتابة الهيروغليفية، وكيفية إنشاء المدن، وتأمين الحدود، والتجارة النهرية؟ هذا الأمر مدعاة لأن يُستحضر بألم، لا يقل عن مقدار الفرحة التي نحن عليها اليوم، ونحن نرى الشعب المصري العظيم، وهو ينتخب رئيساً له بشكل مباشر وديمقراطي، تعددي، حر.
منذ العام 1954 ولغاية اليوم، حَكَمَ مصر، ثلاثة رؤساء فقط! لكم أن تتخيَّلوا، أنه وفي بحر ثمانية وخمسين عامًا، لم تلِد مصر بملايينها الثمانين أو الستين سوى ثلاثة من الرؤساء، لكي يُسيِّروا أمورها، ويسودوا على أهلها! دعونا نتذكر هذه المعادلة جيدًا، وهي أنه وفي الفترة الزمنية ذاتها، أي من العام 1954 ولغاية الآن (2012)، حَكَمَ الولايات المتحدة الأميركية أحد عشر رئيساً. وتولى الحكومة في بريطانيا العظمى ثلاثة عشر رئيساً للوزراء. وحَكَمَ فرنسا تسعة رؤساء، تناوبوا على الجمهوريتيْن الرابعة والخامسة، وتناوب على منصب المستشارية في ألمانيا ثمانية مستشارين، وحَكَمَ إيطاليا عشر رؤساء للجمهورية، وتسعة وعشرون رئيساً للوزراء!
أما مصر الحبيبة، فاكتفت بثلاثة رؤساء فقط! ليس ذلك فحسب، وإنما الموضوع موصول أيضاً بطريقة ذلك الاكتفاء. فرئيسان لمصر، هما مقتولان (عبدالناصر والسادات) والرئيس الأخير (حسني مبارك) مخلوعٌ عن الحكم بالقوة الجماهيرية. بمعنى أن مغادرة هؤلاء الرؤساء الثلاثة للحكم، كانت بالإرغام (الموت/ الثورة) وليس بطيب نفس. في حين أننا نجد مثلاً، أن أربعة من الرؤساء الأميركيين السابقين، مازالوا على قيد الحياة. وأن ثمانية من رؤساء الحكومة في إيطاليا مازالوا على قيد الحياة. وأن أربعة من رؤساء الحكومة في بريطانيا أحياء يرزقون، وجميع هؤلاء يعيشون في بلدانهم بهدوء وراحة، ودون نزاعٍ مع أحد، بل ويتم الاحتفاء بهم في تدشين المراكز البحثية والكتب وحملات التبرع، لما يشكلونه من رمزيَّة عند شعوبهم. هذه هي المفارقة.
أيضاً، لا نريد فقط أن نتنابز أو نتناجز بعدد الرؤساء الذين توالوا على الحكم، وإنما مناجزتنا هي عن كيفية تسنُّم المنصب، وكيفية التخلي عنه. فالمستشار الألماني هيلموت كول على سبيل المثال، ظلَّ في منصبه منذ أكتوبر 1982 ولغاية أكتوبر/ تشرين الأول 1998 (أي لمدة ستة عشر عاماً)، في حين أن الرئيس الجزائري (الخامس) محمد بوضياف بقي في الحكم ستة شهور فقط، من يناير/ كانون الثاني حتى يونيو/ حزيران من العام 1992، أي أقل من كسر عشري، من سنوات حكم مستشار ألمانيا.
لكن القضية، هي أن الأول جاء إلى الحكم بشكل ديمقراطي، بعد حجب الثقة عن سلفه هيلموت شميت، في البوندستاج، وبقِيَ كول في الحكم بشكل ديمقراطي بعد انتخابات العام 1983، والعام 1997، ثم في انتخابات ألمانيا الموحَّدة في العام 1994. لكنه وعندما فشِل في الحصول على الأغلبية اللازمة والمطلوبة لمواصلة الزعامة، خَرَج من السلطة بشكل ديمقراطي أيضًا. أما الثاني (بوضياف)، فقد جيء به من منفاه إلى الجزائر، ليرأس المجلس الأعلى للدولة، بعد انقلاب الجيش على الانتخابات التشريعية، حتى اغتياله من بومعرافي، من دون آلية ديمقراطية تعددية.
الحكم والسياسة لهما ثقافة. وهي بالأساس مبنية على ضوابط، بعضها يقوم على ما ترسَّخ في الوجدان الشعبي، عبر التاريخ، من قيم وأفهام، وبعضها الآخر، على الضوابط الذاتية للأفراد، الذين يأتون إلى السلطة. فإسبانيا، دولة عريقة، في تنظيمها الإداري والديمقراطي، الذي تشبَّعت به عبر وجدان ناسها، كمنتظم تاريخي، لكن مجيء الجنرال فرانسيسكو فرانكو إلى الحكم، في أكتوبر من العام 1936 ولعدم تماثله مع الوجدان العام الإسباني، جعله ديكتاتورياً في السلطة، وقدَّم من أجل كرسي الحكم، أكثر من مليون قتيل، بعد انقلابه على حكم الجبهة الشعبية التي كانت في السلطة، بعد دخول البلاد في حرب أهلية طاحنة ودموية، استمرت ثلاثة أعوام.
اليوم، وأمام هذا الربيع العربي المملوء بالزخم الشعبي والسياسي والفكري، فإن ثقافة الحكم في العالم العربي، يجب أن تتغيَّر. بل كلّ شيء يجب عليه أن يتغيَّر في هذا العالم المتخلف. النظرة إلى الشعوب وإمكانياتها، والنظرة إلى التداول السياسي وإلى الحريات، والنظرة إلى الثروة الوطنية وأحقيَّة جميع المحكومين بها. إذ لا يستقيم، أن تتملَّك هذه الزعامات، المليارات، وبلدانها متخلفة، تحبوا في طريق التقدم، بشكل سلحفائي، في حين أن رئيساً لجمهورية عظمى كفرنسا، تكافئه الدولة بعد خروجه من السلطة، بمنحه شقة بشارع ميرومينيل في العاصمة باريس لا تزيد مساحتها عن الـ 323 متراً مربعاً، ورئيس مكتب ومساعداً له، وموظف أرشيف وسكرتيراً، وسائقاً وحارسين يقومان بالعمل الشرطي لأمانه الشخصي، كما في حالة ساركوزي.
وإذا لم تقم الثورات والانتفاضات، بتغيير هذه الثقافة في السياسة والحكم والشعوب والثروة، فلا معنى لكل هذه التضحيات والدماء المسفوحة. لأن التحرُّك التغييري، لا يقوم فقط من أجل استبدال الشخوص، بقدر ما يهدف إلى تبديل النمط الثقافي للسياسة والحكم، لكي لا تتكرر التجارب المأساوية للدول والشعوب، فتعاد الساقية ذاتها للعمل.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3549 - الجمعة 25 مايو 2012م الموافق 04 رجب 1433هـ
كلام سليم فقط
ليس بالضرورة ما يصلح لك يصلح للاخرين مع تحياتي
سوار الذهب
لا يوجد من العرب سوى الرئيس السوداني الاسبق سوار الذهب