حَمْلك المفاتيح لا يضمن عودتك إلى البيت في ظروف نهْب واحتلال. المفاتيح رمز الدخول وبصمة انتمائك إلى المكان؛ لكن ثمة من يملك أدوات محْو تلك البصمات، ونسف أو تزوير تلك الرموز.
هذا التيْه الذي يعانيه الفلسطينيون بفعل عبث في السياسات حكمت المنظومة العربية منذ أكثر من سبعة عقود ونيّف، لم يكن بمنأى عن الخذلان والتبرؤ الرسمي لتلك السياسات. كان ذلك توطئة لاستباحة وطن وتهجير شعب، ومن بينهما مجازر لم تكن أدوات الرصد وقتها في الذروة من إمكاناتها؛ كي تقدّم الصورة الحقيقية لمحتلّ همجيّ يُراد له اليوم، وبوصفة أميركية، أن يكون النموذج الجدير بالنظر والتمثل والاقتداء في منطقة الشرق الأوسط! ودخلت ضمن أدبيات النفاق السياسي والكيْل بأكثر من مكيال: «(إسرائيل) النموذج الوحيد للديمقراطية في الشرق الأوسط»، تغافلاً عن ممارسات عنصرية واستباحة دم وجدار فصل لم يعرف التاريخ له مثيلاً؛ إذا استثنيا جُدُرَ الفصل بفعل غزوات تجتاح البلدان والدول (سور الصين نموذجاً؛ وسور برلين بعد الحرب العالمية الثانية؛ باعتباره إجراء حماية فرضته الحرب الباردة وعصر تصدير الأيديولوجيا).
يحاول كل واحد منا ألا يكون مصاباً بالوجود الاضطراري. ذلك وجود لا أثر ولا معنى ولا قيمة له. أن تُضطر إلى وجودك كأنْ تُضطر إلى السهر على عدمك وتأكيده وتعميقه. ذلك يعني أنك خارج سياق الفعل والحراك الطبيعي لذلك الوجود؛ لكن تراكم الخذلان والتبرؤ يمكن أن يخلق شعوباً لن تكون محلّ ترحيب في جغرافيات أول سماتها الاستقرار، والإقرار بقيمة شعوبها.
لا مصادفة في التعامل هناك ضمن جغرافية الآخر. إنها الفطرة التي روّضها ورسّخها القانون. القانون الذي لا يعادل كيلوغراماً من العدس؛ أو العَلَف في أوطاننا.
كأن النسيان أحد سمات هذا الزمن في هذا الجزء من العالم. نسيان وجوده أساساً؛ بدليل أن المستقبل في آخر اهتمامه وأجندته؛ وحتى المستقبل الذي يتم مصادرته من قِبَل النُخب الحاكمة هو في حقيقته تهديدٌ له وارتدادٌ بيّن على أبسط قيمة في الوعي بالزمن ضمن لحظته المعاصرة بذلك الكمّ من القلاقل والاضطرابات التي تنشأ بفعل تلك السياسات، وما ينتج عنها من سدّ لكل أفق يؤدّي إلى المستقبل المُتوهّم.
يحاول الواحد منا، وللمرة الثانية أن يكون مشروع بطل قومي حيّ، بدل أن يكون شهيداً على مرحلة تفرض مواجهة من نوع ما. يُمكنك أن تكون شهيداً حيّاً أيضاً بإنجازك حاضراً... فاعلاً... ومؤثراً. هذه الأوطان بطبيعة أداء سياسييها وتخبّط السياسات، مشروعات تخريج شهداء من الجهات الأربع ضمن حدودها المغلقة على انحطاط قيمة الإنسان فيها.
ماذا لو تحوّلت الشعوب كلها إلى شهداء؟ الطغيان والاحتلال والتفاهات ستتصدّر المشهد وتحتله؛ وستكون أكثر تسلّطاً وأمراً ونهياً لما تبقّى من تلك الشعوب في لحظة منْجاة يحكمها أكثر من عامل وسبب؛ إذ ستلتقي جيناتها وحسّها مع جينات وبهائم الله في حظائرها!
نكبة فلسطين وما كشفت عنه من فساد واضطراب وتخبّط النظام العربي والتبرؤ من صناعة الكارثة، أسّست لنسخ من نكبات بالجملة؛ وإن بدتْ أقل هولاً وأثراً، بموازاة تعاطف يكاد يكون منعدماً من قبل منظمات المجتمع الدولي التي اكتفت ببلاغة الاحتجاج طوال عقود؛ من دون أن تحرّك ساكناً تجاه ما تتعرّض له شعوب هذا الجزء من العالم من قمع ومصادرة واستهداف؛ وخصوصاً في أقلياته بالتضييق على عقائدها وتخوين انتمائها والتجييش اليومي الذي يطولها.
المفاتيح التي يتم تعليقها على الجدران أملاً في العودة إلى وطن بأسْره، وحدود أوطان أخرى متاخمة له تم احتلالها قبل أكثر من 6 عقود؛ أو حتى اتخاذها قلائد أو تمائم. النكبات التي صنعتها دول عظمى باختراع شعب يتم جلبه من الجهات الأربع ليخترِع وطناً لمحتلين على حساب أبنائه والمتجذرين في تربته وامتداده. بلاغة الاحتجاج التي تُطلّ برأسها من حين إلى آخر؛ لن تضع حدّاً لهذا النزيف اللانهائي لكرامة الإنسان، والإمعان في إهانته في ممارسة وتوقيت يراد أن تكون فيه متعة وعادة لدى كثيرين؛ كما هي متعة وعادة وتوقيت شرب الشاي بالتوقيت الانجليزي في الخامسة مساء!
حتى الأوطان التي لا تعاني من احتلال مباشر، لا تخلو بفعل سياسات البطش والقمع والمصادرات بالجملة فيها من بروز ويقظة حسّ أن المفاتيح التي بها يُحْكم قفل الأبواب ليس بالضرورة أن تعود إليها. لا أحد يضمن عودته إلى أحضان أطفاله وأهله وأصدقائه، ومن يحب طالما أن لا شريعة واضحة تحكم البشر في إطار القانون والمحاسبة وإقرار الحقوق.
أصعب وأشرس النكبات تلك التي يتم صناعتها من داخل الأوطان وبأيد تصر على وطنيتها، وأي محاولة لرفع سبّابة إدانة في وجهها كفيل بتراكم مزيد من النكبات!
وأصعب النكبات أيضاً حين تكون مُحاصراً بوهم مشروع الإنسان فلا يطولك منه إلا النقيض من قيمتك وآدميتك.
ختاماً، ما المفاتيح؟ ذاكرة المكان في نفي مُعاش ويومي يكاد يكون شمولياً يعاني من تبعاته من لم ينل حظاً من وقاحة الاستسلام حتى للهشاشة. ما النكبة؟ إعادة إنتاج الخسف، وإعادة الحياة إلى سيرتها الأولى. ما البلاغة؟ محاولة توصيف ما سيحدث بلسان حال ما حدث. ما الاحتجاج؟ أن تكون قادراً على الجهْر بموقفك ولو كنت في قبر!
في النهاية أضعنا المفاتيح. لا خرائط واضحة تدل على بيوتنا. النكبات تترصّدنا عند كل مفترق طرق؛ والبلاغة في هذه المرحلة، خرس وسذاجة قائمة!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 3544 - الأحد 20 مايو 2012م الموافق 29 جمادى الآخرة 1433هـ