يفتح الاضطهادُ الباب للإبداع. بعضهم يضطهِده أبَوَاه (أو أحدهما) فيصير مبدعًا، كما في حالة القديس أغسطينوس وأبي حيان التوحيدي. وبعضهم، تضطهده السياسة، فيصبح مبدعًا، كما في حالة كوندورسه. وبعضهم تضطهده عنصرية الدولة وملحقاتها من الجماعات الشعبية العنصرية فيصبح فيلسوفًا أو عالِمًا أو مبدعًا، وما أكثرهم، ألبرت آنشتيان، حنَّة إرندت، رومان بولانسكي، وأضرابهم، ممن أرادت النازية، القضاء عليهم فأصبح لهم شأوٌ كبير.
يتفاوت مستوى الاضطهاد الذي يُفضي إلى الإبداع. ينتهي بالتصفية الجسدية والإمحاء، لكنه قد يبدأ بكلمة سَفَه تقال بحق رجلٍ عزيز وذي حِجَا. أحَد العلماء البارزين، من الأكاديميين القلائل في مجال اللسانيات، دفعته كلمة شوارعيَّة، وجهها له موظف أرعن، في نظام عربي دكتاتوري دموي، لأن يترك بلده، ويهاجر إلى أرض الله الواسعة، ويمخر في عباب العلم، ليصبح على الهيئة المرموقة، التي هو عليها الآن. آلاف من الطلاب، تخرَّجوا على يديه، وتستجديه مهابط العلم الكبيرة في العالم، لكي يُدرِّس في جامعاتها، ومن يظفر به منها، يعض على خدماته بالنواجذ.
في عالم اليوم، لا يوجد بعد الشراكسة عقب إبادة مدينة سوتشي من قِبَل الروس، شعبٌ عانى بمثل ما عاناه الفلسطينيون من تهجير، ونحن نعيش ذكرى نكبتهم الرابعة والستين. فلم تمنع تلك الظروف القاسية من أن يظهر لنا علماء منهم. هل يُخطئ الأدب الشعراء الفلسطينيين الكبار: سميح القاسم، محمود درويش، وليد نبهان. هل يستطيع الطب، أن يتجاوز البروفيسور جمال الصالحي، أو ألا يتذكر المبدعون إفاضات حمدان الضميري، وعلي إبراهيم فطوم، ومحمود أبوحمام، ونائل طوقان، أو القاضي والقانوني الفلسطيني المرموق ببريطانيا يوجين قطران؟!
نعم، فأكثر خطابات الكراهية، والعنصرية، والإزاحة والتهجير والتمييز والقتل والاعتقال، خلقت مبدعين، تفوقوا على مَنْ مارس ضدهم الإرهاب. فمشكلة الخطاب العنصري، أنه يتحرك وفقاً لغريزته وذئبيَّتِه، وبالتالي، فهو يضرب في الأغيار كيفما اتفق، ودون أدنى مراعاة لأيّ شيء يمكن أن يحسب له العقلاء، أو حتى أنصاف العقول. هو يظن، أن مَنْ يضطهدهم، هم محتاجون إليه، وبالتالي، فإن حركتهم وسكونهم لا يجريان إلاَّ على يديه وبمباركته. لقد علمنا التاريخ، أن الخطاب النازي والفاشستي، خلق مبدعين مُبرَّزين، والخطاب الصهيوني العنصري كذلك، وخطاب الفصل العنصري الأبيض في جنوب إفريقيا أيضًا، ولا حصر في ضرب الأمثلة والتجارب في ذلك الأنموذج.
ليس فقط خلق ذلك الخطاب والممارسة العنصرية أناسًا مبدعين، بل أظهر لنا مدى مساهمتهم في إثراء البشرية، بأكثر العلوم تطورًا وحاجة. يكفي أن نعرف، أن بلدًا كالولايات المتحدة الأميركية، قام على الهجرات من أوروبا وآسيا وإفريقيا، وليس على شيء آخر. كل الذين هجَّرتهم، سياسات التمييز الاجتماعي في أوروبا، ثم في امبراطورية الرايخ الثالث الواهِمَة، والفاشية الإيطالية التعيسة، والحقبة الفرانكوية الإسبانية، والإبادة الصهيونية، ودكتاتورية الأنظمة العربية خلقت تطوُّر أميركا هذه اللحظة. كل مَنْ زار وكالة ناسا للفضاء، أو الجامعات الأميركية المرموقة، سيشهد على ذلك.في حين خسِرَت تلك الأنظمة القمعية، خيرة أبنائها، بسبب الخطابات التمييزية والشوفينية، ضد أناس، لا ذنب لهم سوى أنهم مختلفون عن غيرهم فقط.
خطاب الكراهية، هو خطاب غبي، أحمق، يحفر يده بيده. فهو يدفع بأصحابه، لأن يصبحوا أقليَّة، في الوقت الذي يسير فيه العالم نحو الانفتاح، وبالتالي، فهم يصنعون لأنفسهم صورة سوداء، أمام مَنْ يُقابلهم من الأغيار، الذين يتحولون بصورة أتوماتيكية، لنماذج بيضاء ناصعة. وهنا تصبح المعادلة عكسية، فكلما ازدادت مثالية المجتمعات المنتَهَكَة في حقوقها، ازداد قبح أفعال ظالِمِيهم من أصحاب الخطاب التحريضي الفج، فضلاً عن أنها تلعب دورًا مهمًا في تخليق مجتمعات أكثر طُهرًا وانسجامًا، أمام عَوَار ذلك الخطاب العنصري الوضيع وغير الإنساني.
انظروا إلى مجتمع جنوب إفريقيا النخبوي بعد انتصار السُّود على نظام الفصل العنصري الأبارتهايدي، فقد أنتَجَ ذلك المجتمع الأسوَد النخبوي، الذي اتشح بأناس عظماء كـ نيلسون مانديلا وديزمان توتو وغيرهم، ثقافة تسامحيَّة، قلَّ نظيرها، بيَّنت طهرانيتهم ومثاليتهم، أمام ما كان يفعله النظام العنصري الأبيض ضد المجتمع الأسوَد. بل حتى في السابق، وقبل هزيمة العنصرية البيضاء، عندما تم تأليب وتضليل قبائل الزولولو السُّود بشكل مخادع ضد نشاط المؤتمر الوطني، طبَّق مانديلا، من خلال رسائله القول الروسي الحكيم، بأفضل مسلك: نجيب على الاستفزاز بالصَّمت، فشهِدَ العالَم على مدى قبح ذلك النظام، ونصاعة المجتمع الأسوَد المظلوم.
اليوم، دولة جنوب إفريقيا، لا تصدِّر لنا علماء وفلاسفة فقط، وإنما تصدِّر للعالَم تجربة حياة مختلفة. كل المجتمعات التي تورَّطت في خطابات الكراهية، يتم تأهيلها في كيب تاون وبريتوريا وبلومفونتين، حيث يشهد المؤهلون على أنماط غريبة من المعاملة، ونماذج عظيمة للصبر، الذي تحمَّله الرجل الأسوَد، خلال سنوات الفصل العنصري، والسياسات الحكيمة لقيادات المؤتمر الوطني الإفريقي بزعامة مانديلا بعد انتهاء معركته المديدة مع نظام فريديريك دوكليرك العنصري.
اليوم، من العَيْب أن نرى دولاً تمارس ذات الدور العنصري البغيض، وبمعيتها حواشٍ بشرية بلهاء، تساق سَوْقاً بلا فهم، نحو انتهاج هذا الخطاب الشوفيني الخطير. فالتجارب والتاريخ، وُضِعَ للاتعاظ وليس لأن نقع في ذات الأخطاء التي دوَّنتها التجارب، فنقيم الخطأ والعلاج في آن. بل وفي أحيان كثيرة، تتعذر العلاجات، بسبب اختلاف التجارب، فنخسر الأمرين، وما أعظمها من خسارة.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3542 - الجمعة 18 مايو 2012م الموافق 27 جمادى الآخرة 1433هـ
bahraini
al sallam alikum .thank you mr mohammed this is V good subject thanks again
اكمل المقولة
الاضطهاد يولد الإبداع ، والمحاباة والمداراة تولد البلاهة والتنابل ، انظر حولك وسترى صحة هذه المقولة !
ليكن شبابنا من المبدعيين
في ضل الاوضاع التي نعيشها نتمنى من شبابنا ان تكون هذه الاوضاع حافزة في تفوقه الدراسي في جميع التخصصات العلمية والتي ستكون سلاح في الدفاع عن المظلومه التي يعيشها شعبنا بتبوئه على مرات العلوم التي تخدم البشرية و سيكون شخص مهم في العالم في الدفاع عن شعبه وكل الشعوب في العالم