منذ أمد نسمع ونرى بأم أعيننا ما تقوم به جماعات الفساد المالي والإداري من سلوك تحطيمي لأسس القيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البحرين. وقد استوى وقوي عود هذه الجماعات، ونما وخصوصا بعد التعطيل القسري للحياة النيابية (73 - 1975)، اذ تم بعد ذلك تغييب الحياة السياسية والتشريعية حتى بداية المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، حينما فُتح الغطاء وكُشف المستور، وأجدني موافقا مع تعبير أحدهم ممن هاله منظر ما رأى وما كشفت عنه الوقائع حينما قال: «لا أظنني متجاوزا اذا قلت ان ما سعينا إليه وجهزناه من عدة وعتاد ورجال للمعركة ضد جبهة الفساد لا يساوي ذخيرة ساعة».
قد يكون من الممكن ان تدب عملية الاصلاح ومن ضمنها الاصلاح المالي والإداري في الكثير من المواقع الاجرائية والمؤسساتية من دون ان تجرى لها عمليات مركزة في هياكل الوظائف التنفيذية أو أية جهة مؤسساتية، فقد يتم الاكتفاء فقط بعمليات جراحية بسيطة ونوعية وفي محطات معينة. الا ان الضرورة تقتضي، وكذلك الصدقية في المنهج لا يمنع - بل قد يصبح من نافلة القول - ان تستخدم جراحات مركزة في بعض المواقع التي لا ينفع معها الا ذلك الإجراء. وربما تطلب الامر ايضا أنواعا منتقاة من الاستئصال الذي لا يقبل المساومة أو أنصاف الحلول وخصوصا مع ما وضح من مواطن قوى الفساد في الآونة الأخيرة (تجميد لجنة التطوير الإداري وإزاحة رئيسها، عدم محاكمة بعض المستحوذين على المال العام في وزارات العمل، الصحة، التربية، الشباب والرياضة، المحاكم، المصارف والبنوك تغييب مجلس التنمية الاقتصادية، الفساد المالي في إدارات الاوقاف) وخصوصا اذا كانت عجلة الاصلاح يراد لها ان تتعثر نتيجة ما تواجه من مراكز قوى تبلورت وانتظمت على شكل «لوبيات» و«مافيات» مستشرية في الهرم الإداري والتنفيذي وتمارس الفساد الإداري والمالي، وباتت تتحكم في أرزاق المواطنين وتعمل من أجل استنزاف موارد الدولة لصالح تشطيب إداري نوعي قد يكون مخططا له.
والآن ما هو الفساد الذي نتحدث عنه دائما وتواجهه بلادنا؟ الفساد الذي نواجه هو الظاهرة المحكومة بزمانها ومكانها وتفشت نتيجة غياب المؤسسة التشريعية وساد فيها الاستبداد وغياب القوانين الدستورية الناظمة للعلاقة بين الحكم والمواطن وشيوع الاجراءات الفردية وتفشي البيروقراطية وتركز السلطات في مركز القرار الفردي، حتى بات الذي يقرر هو الذي ينفذ وهو المستفيد حكما بلا منازع.
وقد بدأ الفساد في البحرين مع قيام التنظيمات الإدارية الحديثة منذ الربع الأول من القرن الماضي، وتوسع بامتداد الأجهزة الإدارية والبيروقراطية، الا أن العقود الأربعة الأخيرة بقدر ما شهدت نموا ملحوظا في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، فانها شهدت في المقابل تمركزا وانتظاما في ممارسات الفساد المرتبط بالاستبداد والاستئثار بمقدرات البلاد والعباد وإقصاء كل رأي أو صوت معارض للأوضاع المهترئة التي ينخرها الفساد المدعوم من الاستبداد السياسي والمستفيد من غياب الديمقراطية وترهل الأجهزة والمؤسسات الحكومية، ولذلك وفي ظل سيادة أسلوب قبضة الحديد واقصاء وتهميش فئات واسعة من المواطنين في المجتمع، وجد الفساد الأرض المناسبة لأن يكون هو القانون، في حين ان العدالة، والاستقامة المبدئية ونظافة اليد والضمير هي الاستثناء الذي يجلب لصاحبه العزل وربما السجن أو في أحسن الاحوال النفي والغربة.
ان التباطؤ في بدء ازالة مواطن الفساد والقائمين عليه ليس في صالح مسيرة الاصلاح أبدا بل هو في صالح جبهة الفساد والمفسدين، لأن التأخر في مجابهتها - بالقانون - يعطيها فرصة المناورة واعادة رسم ملامحها الشخصية والموقعية، وهو ما رأيناه جليا عندما بدأت أساطين الفساد في مشروع إطفاء ومحو علامات الجرائم المالية والإدارية والحقوقية التي قد تصل الى ضبطهم بالجرم المشهود عند الملاحقة، بل زادت في جهدها نحو شرعنة الكثير من أعمالها التي ارتكبتها في السابق.
وقد أفرز ذلك اصطفافا آخر بدا وكأن هناك دعما ولو من طرف خفي من جهات عليا تود المواجهة لاجتثاث نفوذ جبهة الفساد، ولكن عن طريق بؤر ومنافذ غير مباشرة. لذلك فان استثمار ذلك بحنكة ووعي سياسي راق قد يساعد على اجتثاث واضعاف جبهة الفساد.
ان ما نراه اليوم من ممارسات فساد مستشر في المصارف والشركات فضلا عن مؤسسات الدولة وإداراتها وفي المجتمع، مما هو نتاج تلك السنوات العجاف، مسكوت عنه أحيانا نتيجة غياب الشفافية ونتيجة التغطية عليه من بعض المراكز المتنفذة، والتغطية عليه قانونا وحمايته سياسيا احيانا أخرى، والاستبداد السياسي هو المســئول الاول عن استمرار تفشي هذه الظاهرة الخطيرة في بلدنا، وهو الذي فاقم الأوضاع حتى بلغت درجة دفعت الناس وقوى المجتمع الخيرة الى الاحتجاج علنا وبمختلف السبل خلال العقد الأخير من القرن الماضي.
لذلك فإن كثيرا من المراقبين والباحثين يعزون تنامي حركة الاصلاح والتذمر التي حدثت في 94 - 2000 في بعض تداعياتها ومسبباتها، الى استشراء الفساد الذي أوصد أبواب المستقبل امام مجاميع كبيرة من شبابنا.
وهي لذلك عبرت عن حاجتها الى مؤسسة تكون عنصرا من عناصر التصدي للفساد. لأن استمراره في المؤسسات، المصارف، التعيينات التي لا تراعي المساواة وتكافؤ الفرص، التمييز والمحسوبية، الرشوة، كل تلك الأمور من الفساد لا تؤسس مجتمعات سوية ولا إدارة كفؤة في الدولة، كما في القطاع الخاص. فلا غرو، والحال هذه، ان يطول الفساد ايضا الأفراد ويجعل منهم فاقدي الضمير بممارستهم الرشوة والمحسوبية والواسطة وممارسة التمييز وتكريس عدم المساواة وتوظيف الأقارب والاصدقاء، ما يشكل عامل هدر لطاقات المجتمع، وتنكفئ فيها روح المبادرة والاخلاص والصدق. غير ان ممارسات الفساد لا تعني أبدا فساد المجتمع، بل تعني ان غياب الديمقراطية فترة طويلة تسبب في التستر عليه وجعله يتوارى خلف حجب قانونية، سياسية لأنه ينمو ويتولد مع استمرار الاستبداد الذي يعتبر التربة الخصبة التي يعيش فيها. من هنا علينا أن ندرك أن الانتظار طويلا قد يطفئ بريق الأمل الخافت أصلا في التجربة الاصلاحية والبرلمانية الوليدة والتي واجهت ظروفا اجتماعية وسياسية صعبة للغاية من قبل تيارات وقوى ذات تأثير في الحكومة والمجتمع.
ولذلك فان على كل القوى الخيرة في المجتمع المدني والبرلمان ان تقوم بخطوات عملية معاكسة لمجابهة جبهة الفساد التي تضغط بشكل يومي على أرزاق الناس ونفوسهم وتطفئ بريق الأمل في تطلعاتهم، ما قد يتسبب في تراجع الحركة الاصلاحية بل قد يجعلها معوقة وكسيحة لا يمكن معالجتها الا من خلال فوران اجتماعي وسياسي جديد. وتلك ليست شعارات بقدر ما هي تنبيهات لأصول العمل الوطني.
ومن المناسب هنا لفت الانتباه الى أن كثيرا من المنظمات الدولية المعنية والمختصة تراقب عن كثب كيف ستعالج المملكة هذه المعضلة لاعتبارات سياسية واقتصادية ليس أقلها وآخرها ما أكده الممثل التجاري الأميركي روبرت زوليك الذي زار البحرين قبل شهرين من أن التفاوض على متطلبات وشروط توقيع اتفاق التجارة الحرة بين البحرين والولايات المتحدة يتطلب توافر مستويات عالية من الشفافية ووضوح السياسة العامة في مواجهة الفساد الذي اعتبره المسئول الأميركي احد العوامل التي تعطل النمو الاقتصادي وتحد من انطلاقته، كما ان له دورا كبيرا في تعثر اداء كثير من المؤسسات العامة والخاصة بل ان عددا منها بلغ حافة الافلاس والشواهد على ذلك كثيرة ولم تعد خافية على أحد في البحرين.
لقد ظل فساد الحكومات لمدة غير قصيرة موضوعا مثيرا للانتباه والمتابعة في كثير من البلدان: فقد ظلت احزاب المعارضة والصحافيون والمواطنون المعنيون وجمعيات المجتمع المدني يطرحون اسئلة ويثيرون بواعث القلق لسنوات كثيرة، ولكن الشيء الجديد اليوم هو أن جهات خارجية ودولية اصبحت مهتمة بشكل متزايد بمتابعة حوادث الفساد وشخوصه كما بدا متبرعو المعونة الخارجية والشركات الدولية والوكالات الانمائية المتخصصة بالاضافة إلى جهات أخرى، يبدون حرصا اكبر على متابعة سوء استعمال التمويل الحكومي وحتى في مؤسسات القطاع الخاص، أو سوء استعمال المنصب العام للاثراء الخاص، وقد كثر هذا وذاك في البحرين في السنوات الأخيرة التي غابت فيها المساءلة والمكاشفة والرقابة الشعبية. واليوم ينظر الى الفساد ليسا باعتباره عيبا في ذاته فقط، لكن باعتباره مساهما رئيسا في فشل مجموعة عريضة من السياسات تتراوح بين المعونة والخصخصة وتحرير التجارة، وقد فاقم من مشكلة الفساد طوال العقد الماضي الزيادات الدرامية في معدلات نمو التجارة، الاستثمار والانتقالات المالية بين دول العالم، وعندما يصل المال الأجنبي من خلال الاستثمار الخاص، او القروض أو المنح من البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي يبدو ان كثيرا جدا منه - بحسب التقارير الدولية - يحول الى الايدي الخطأ، ويلاحظ أنها جهات مسئولة عن الاشراف على صرف القرض أو المنحة في الهرم التنفيذي والإداري
العدد 354 - الإثنين 25 أغسطس 2003م الموافق 26 جمادى الآخرة 1424هـ