العدد 354 - الإثنين 25 أغسطس 2003م الموافق 26 جمادى الآخرة 1424هـ

الأوقاف... الكل بانتظار المحاكمة!

مَنْ الذي سرق الخاتم في كربلاء؟

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في يوم العاشر من المحرم يأتي الخطباء على ذكر أصعب اللحظات التي مرت على الحسين (ع) وآله وصحبه في كربلاء، إحدى هذه اللحظات صورة لأحد الجلادين حين تقدم من الإمام لينتزع خاتمه من إصبعه، فلما تعسّر عليه استل سيفه فقطع الإصبع الشريف ليسرق الخاتم. وهو ما ألمح إليه الجواهري ضمنا في قصيدته العينية الذائعة:

كأن يدا من وراء الضريح حمراء مبتورة الإصبع

هل تجدون من فرقٍ بين سرقة ذلك الخاتم وبين التلاعب في أموال الأوقاف التي خصّصها المؤمنون الطيبون من أبناء الإسلام لخدمة الحسين وقضيته؟

ما الذي بهر الغربيين؟

في الأصل كانت مؤسسة الاوقاف من الأمور التي بهرت الدارسين الغربيين عندما بدأوا دراسة الشرق منذ قرنين، وعندما انبرى «المستشرقون» لدراسة تاريخ هذه المنطقة - وهم القادمون من عالم مسعور متكالب على غزو دول العالم وسرقة ثروات الشعوب «غير الزرقاء» - أدهشهم ما رأوه من مؤسسات وقفية. وعندما تقرأ ما خلّفه المستشرقون من دراسات للحضارة الإسلامية ستدرك مدى إعجابهم بهذا الجانب المشرق الذي وقفوا أمامه مبهورين. فهو كان يعكس جوهر الحضارة الاسلامية وروحها الانسانية الرفيعة. ولا عجب ان يهتم المسلمون من قديمٍ بوقف بعض ممتلكاتهم وعقارهم وبساتينهم لخدمة المجتمع. ولا عجب ان نرى المسلمين في أزهى قرون حضارتهم يقفون الأملاك على المدارس والبيمارستانات (المستشفيات)، بل ونقرأ عن وجود مستشفيات أو أماكن لإيواء المصابين بالأمراض الخطيرة آنذاك كالجذام وما شابه. وفي واقعٍ جغرافي مترامي الأطراف تقطعه الجمال في أسابيع وشهور كان للوقف دور رائد في توفير محطات لتزويد المسافرين ودوابهم بالمياه، كانت تعرف بـ «السبيل»، أُنفق الكثير على إنشائها وعمارتها. هذه العمارة توقف أمامها الغربيون كثيرا يتأملون ذلك الجَمَال و«الأبهة». ربما لم تشهد البحرين مثل هذا المعلم المعماري (السبيل) لصغر حجمها ووفرة المياه فيها في الأزمان الغابرة،ولكن المفردة ذاتها تتردد عند توزيع المياه أيام إحياء «عاشوراء».

ومع ذلك كان للوقف دور نستدل عليه من خلال هذا الكم الكبير من الأوقاف التي يثار حولها هذا الجدل المحتدم. فمن الموضوعات الساخنة التي شغلت الساحة موضوع الفساد المالي والإداري في الأوقاف، بعد الوقفة الجريئة التي وقفها الرئيس المُقال علي الحداد لتصحيح الوضع الأعوج الذي طال السكوت عنه. وكشفت النقاشات التي دارت عن وجود عدد من الإشكالات التي زادت في تعقيد الوضع. ومن الامور التي أثارها الحداد انه فكّر في مشروعات هي من صلب أهداف الأوقاف عبر التاريخ، ما يدل على صوابية طريقته في التفكير واستيعابه للبّ فكرة الوقف، من قبيل علاج فقراء المسلمين أو إنشاء جامعة، ولكن لم يقل لنا الحداد كيف يمكن إقناع الواقفين بأن أموالهم ستدفع في هذا السبيل، مادامت الأموال الموجودة حاليا تحت إدارة الأوقاف تدور حولها كل هذه الشبهات بشأن الفساد المستشري.

طبعا ليس من المتوقع من رئيس مجلس إدارة الأوقاف الحالي إلا أن يصرح بنفي وجود أي فساد مالي أو إداري، «وإن كل فلس يذهب إلى محله»، «فما أنا إلا من غزية إن غوتْ... غويتُ...» كما قال الشاعر الجاهلي دريد ابن الصمة، وما نحن إلا جزء من العالم الثالث ذي الأمراض المستوطنة، الذي يعالج أمراضه بالطرق الملتفة: المرض غير موجود أصلا... وما هي إلا مؤامرة أجنبية... وكل شيء على ما يرام!

على ان من خير ما كشفته هذه «الإثارات» وجود أطراف تحاول أن تستفيد من هذه الوضعية لحسابات شخصية، وهناك قصص أكثر من كثيرة، يمكن للمتتبع أن يجمع منها ملفات وملفات... من إيجار أرض 100 * 170 بمبلغ سبعة دنانير سنويا، أو ما كلفه التعاقد مع شركات برامج الكمبيوتر الثلاث، أو التأجير للأقارب من الدرجة الأولى، أو ما حدث لمكيفات جامع عالي، أو المقاولات وكيف يتم إرساء المناقصات في جوٍّ من العتمة.

في بداية صدور «الوسط» وصلت الكثير من الرسائل والشكاوى ضد الأوقاف، تتهمها بالتقصير عن رعاية بيوت الله والمآتم، وتذكر تفاصيل مدعمة بالصور، ولم يكن حينها بالإمكان الخوض في بركة آسنة منذ عقود. ولكن إذا أصر رئيس مجلس الإدارة على سياسة «النفي» فبالإمكان بكل سهولة فتح تلك الملفات، والاستشهاد بالتفاصيل وذكر أسماء المتورطين أيضا، حتى الشخص الذي صرّح بملء الفم قائلا: «أنا لا تهمني الأوقاف... فأنا علماني»، خصوصا أنه لم تبق فرصة للترقيع!

الأوقاف، بوصفها إدارة، موضع شك كبير من حيث القيام بدورها، وسياسة النفي لن تنفي التهمة، وتشكيل لجنة تحقيق داخلية، هذه السياسة «العربية» العتيقة، لا ينتظر الرأي العام منها خيرا، والكثيرون ينتظرون المحاكمة، ليس لمحاكمة الحداد، وإنما لمحاكمة كل الممارسات والتلاعبات التي أتاحت العبث بأموال شرعية كان أولى بها أن تصرف في موارد تستفيد منها الفئات المحرومة من هذا الشعب الفقير، كتعليم أبناء المحرومين وعلاج الفقراء وسدّ حاجات الجائعين.

لو كانت هذه الأموال أموالي وأموالك لدافعنا عنها بأسناننا والسكاكين... فما بالك وهي أموال صاحب الإصبع الحمراء المبتورة؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 354 - الإثنين 25 أغسطس 2003م الموافق 26 جمادى الآخرة 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً