لقد عاشت مصر بعد ثورتها المباركة عصر الفوضى الثالثة وغياب الرؤية الاستراتيجية وعدم وضوح الأولويات، ولكن الأهم هو خروج جماهير كبتت طويلاً بشعارات وهتافات على أرض مصر ضد السعودية ونظامها وقادتها وكما هو معلوم فإن السفارات تعبر عن أمرين بالغي الأهمية الأول أنه لها حصانات دبلوماسية تحميها الاتفاقات والمعاهدات ومبادئ القانون الدولي، ومن ثم فإن الهجوم عليها يعبر عن أن من يقومون بذلك مهما كانت حججهم لا ينتمون للفكر القانوني الدولي، وهم مجموعة لا يقدرون العواقب يتصرفون بعواطفهم، وليس بعقولهم، وليس ذلك شأن الشعوب الناضجة مثل مصر وشعبها باني الحضارة العريقة، والثاني أنه لا يقدر المنطق العلمي الذي يدعو عند القيام بأي تصرف لتقدير خسائره ومكاسبه ومن ثم فهم يدفعون الدولة دفعاً نحو الخروج على قواعد القانون والشرعية إلى مكان سحيق حيث يمكن أن تفرض عليها عقوبات كما حدث مع إيران بعد ثورة العام 1979م، عندما اقتحم مجموعة من الطلاب السفارة الأميركية في طهران.
ولكن النظر لصورة مختلفة من الحضارة عندما قامت أميركا بضرب سفارة الصين في يوغسلافيا العام 2000، فقد تظاهر الملايين من الصينيين حول السفارة الأميركية دون أن يتسلق أحد أسوار السفارة وهتفوا ضد ضرب سفارتهم وضد السياسة الأميركية ولكن ليس ضد الشعب الأميركي أو القيادة الأميركية وأنا شاهد على ذلك لأن مقر السفارة المصرية كان بجوار السفارة الأميركية في بكين. هتافات تعبر عن هدف، وكانت الجماهير منضبطة، تسعى لتوصيل رسالة احتجاج، وليس لتدمير العلاقات بين الصين وأميركا.
بل عندما قامت الصين بإسقاط طائرة تجسس أميركية عبرت المياه الإقليمية الصينية، تم نقد السلوك العدواني الأميركي بقوة ولكن بأدب، وهذا هو الفارق بين الشعوب الحضارية التي تحترم قياداتها، وقيادات الدول الأخرى، وبين الشعوب التي تسلك وقياداتها مسلكاً يسيء إليها مثل الدب الذي أراد أن يطرد الذبابة من وجه صاحبه فألقى حجراً على وجهه فقتله.
إن ركائز الدولة من قوات مسلحة، وقضاء، وشرطة، وإدارة مدنية، وكذلك علاقات الدولة الخارجية لا ينبغي أن ينظر إليها أحد في إطار عبثي، وإلا فإن مصر ستنساق إلى الفوضى لعدة قرون، ويجب على النخبة السياسية والمثقفين وقادة الأحزاب أن يقرأوا التاريخ السياسي للشعوب ويتصرفون بحكمة وعقلانية، إن الواجب على القادة والسياسيين أن يقودوا الجماهير، وليس الانسياق وراء عواطفهم إذ كانوا حقاً يريدون أن يقودوا نهضة مصر ورفع شأنها وإعادة مكانتها، وإذ لم يفعلوا ذلك فستسلِّم مصر نفسها للفوضى لعدة عقود، وسيحاكم التاريخ هؤلاء القادة والزعماء السياسيين الذين أطاحوا بطاغية، وتحولوا هم أنفسهم إلى طغاة جدد، وفقدوا بوصلة التغيير الصحيح، ولم يدركوا معنى الثورة، وأوضح هنا أن ثورة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم عندما انتصرت على المشركين وفتح مكة، رفع راية السلام، التي هي السلام لشعب مكة وغيره من المشركين، بالصفح قائلاً: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» وأدى ذلك للنصر المبين، ولذلك نزلت سورة النصر واضحة في أهدافها «إذا جاء نصر الله والفتح، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً». لم يقل له انتقم من خصومك، أو نكِّل بهم، أو اهدم المؤسسات، أو دمر المنشآت، وإنما دعاه لشكر الله وحمده والاستغفار، وهذه هي الثورة الحقيقية الواضحة المعالم الصحيحة الأهداف.
إننا مقبلون على الانتخابات الرئاسية ولابد أنها ستسفر عن منتصر ومنهزم فهل يتجه أنصار المرشح الذي لم يفز في الانتخابات للتظاهر وقطع الطرقات كما يحدث في مصر منذ ثورتنا المباركة وانتخابات مجلسي الشعب والشورى شاهدة على ذلك. إنني أدعو الجميع لمشاهدة الانتخابات الرئاسية الفرنسية وكيف كان المرشحون ينتقدون بعضهم بعضاً بشدة ولكن بأدب جم، وعندما فاز فرانسوا هولاند عبر عن شكره لمنافسه ساركوزي المنهزم عن فترة رئاسته، بينما كان أثناء الحملة الانتخابية ينتقده بشدة، كما أن ساركوزي كان أول من اعترف بهزيمته أمام خصمه، ولم يخرج للتظاهر هو أو أعوانه، ولم يشككوا في نزاهة الانتخابات، إن هذه هي الديمقراطية وليست الفوضى، وإذا لم نرغب في التعلم من فرنسا فهل نتعلم من الهند وتجربتها؟ وهي دولة كانت نامية مثلنا ولكنها تعلمت النظام واحترام القانون ولذلك أصبحت أكبر دولة ديمقراطية في العالم وأصبحت تملك الأسلحة النووية والصواريخ وأصبحت إحدى القوى العشر اقتصادياً على مستوى العالم، ولا نقول ماذا أصحبنا نحن الذين بدأنا المسيرة مع الهند منذ مطلع الخمسينات، لأن الهند كشعب وكقادة وكسياسيين يفهمون معنى السياسة ومعنى القانون واحترامه ومعنى النصر والهزيمة.
إن مستقبل العلاقات المصرية السعودية هي الأهم وهي التي يحرص عليها قادة البلدين، أخذاً في الحسبان أن أي إساءة للعلاقات تعني عدم فهم وعدم وعي، وفي الوقت نفسه فإن القياديتين تحرصان على العمل بروح الأخوة، وأكد خادم الحرمين الشريفين على استمرار المساندة الاقتصادية والتعاون الاقتصادي لإنقاذ مصر من ظروفها الاقتصادية الراهنة، لأن قوة مصر هي قوة للسعودية، وسلامتها هي سلامة لكل العرب، وهذا ما حدا بخادم الحرمين الشريفين للاستجابة السريعة بإعادة سفير المملكة إلى أرض الكنانة واعتبار الأمر سحابة صيف في سماء العلاقات الصافية.
حمى الله مصر من شر الفتن والفوضى والغوغائية وحقق لها الأمن والأمان والاستقرار وحمى الله السعودية وكل ديار العرب والمسلمين من شر الفتن والكوارث والأخطار ومن شر الفوضى وعدم الاستقرار، إن مصر التي كانت كنانة الله في أرضه أصبحت للأسف مثار تساؤل من الكثيرين لما فيها من فوضى، وعدم أمان، وعدم وضوح للرؤية وسعى كل مصري سواء كان ثائراً أو من فلول النظام السابق لتقسيم وتقطيع أوصالها، ابتغاءً لمغانم شخصية. إن على الثوار الحقيقيين والقيادات الواعية أن تدرك مخاطر ترك جماعات فوضوية غير مقدرة للعواقب تعبث بمقدرات الوطن ومستقبل الشعب ومؤسساته الوطنية مثل القوات المسلحة والشرطة والقضاء، إن هذه هي أعمدة الدولة ولابد من الحفاظ عليها واحترام دورها فالكارثة لو وقعت لا قدر الله ستحيق بالجميع وأولهم هؤلاء الفوضويون.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 3537 - الأحد 13 مايو 2012م الموافق 22 جمادى الآخرة 1433هـ
ام علي
مقال رائع جدا ، ونتمنى لك مزيدا من البلاغة والفكر